رؤية الظل

يظل الحرف باردًا وصامتًا صمت الحجر والطين حتى إذا مسه قبس من ضوء صار جمرة تضيء.
وإذا ما أضاء الحرف فلن يطفئه ليل ولا ماء ولا تراب..لكن ضوء الحرف لا يصل أبدًا الى قلب
الأعمى ،كثيرون يجرفهم النهر ألف مرة وهم بعيدون عنه،ومع ذلك يحاولون رشّ الآخرين
بماء النهر، ممن ينزلون إليه أكثر من مرة ولا يبتلّون.


يستيقظ الكاتب ،ينتفض هلعا وهو يرى قيدًا يكبل يديه ،ويدرك أنه أصبح مجردا من حريته ،ولا حرية لكاتب
يعجز عن مراوغة القلم وتحريكه لخلخلة ما تراه العين البليدة التي تستسلم بمجرد الاستيقاظ الى الغرق
في بركة العادات اليومية،قانعة بصمت المحسوس ،وسماع ضجيج الغابة البابلية وبما ترك الموتى
الذين عبروا على حافة هذا العالم ،خاطب الكاتب نفسه :هل استسلم ؟!
ثم عاود يسأل : أنا أحلم أم أرى؟؟

تململ الكاتب ،في مكان يقظته اندفع بجسده وحاول الوقوف ،تحرك خطوة وجر أثقالا من الحروف ،
تعثر ،ناء بثقله وتهاوى علىصفحة صقيعية زجاجية تعكس صورة القلم متمددا يطاول بقامته
قامة الكاتب ،ويتقمص شخص كائن خرافي يتحفز للتمرد.
ضحك القلم وخاطب الكاتب: الآن أنهض أنا .أنت متعب وتستطيع أن تستريح قليلا، ثم خطا
خطوتين وقفز بينهما على جسد الكاتب ورسم خطّاً بين أول الصفحة وآخرها .ثم عاد
إلى حيث مسقط رأس الكاتب وقد نزف دمًا أسود وتكلم:
-الآن لا يحق لك أن تتوهم أنك كاتب كل الحروف .لستُ آلة ‌تعبر بها فصول لروايتك .أنا أيضا شخصية
كاتبة ،أمارس بطولتي بطريقتي الخاصة .وما يحدث الآن كان ضرورة لتعرف أني أحمل أثقالك
جميعا حتى وإن توهمت أن أثقالك من الحروف هي أثقالي ..
لقد خنتني أكثر من مرة ولم أفعل .لكني تحملت مادام البحث عن ضفاف أخرى رغبة مشتركه ...
والآن أنا الذي أقودك وأكتب على جسدك.
أبدى الكاتب استغرابه مما يسمع ،ولم يمهله القلم فرصة القول:
كما ترى ،مازلت أختزن بحارًا ،وأملك أرواحًا أنفخها في ثنايا الحروف الباردة فتتقد جمرًا وضوءا.
قاطعه الكاتب: تستطيع أن تفعل ماتريد ...فللأشياء سلطان أيضا.
أطرق القلم ..جال بين زوايا الصفحه ،ثم وقف عند يدي الكاتب المصفّدتين .
دار حول نفسه مرة ،ثم مرة،حرك رأسه :
ـ كلا لم أعد شيئا من الأشياء مادمتُ أجدني راغبا في أن أصنع شيئا ،بدونك انت ..وأن أصنع حدثا مختلفًا
أصنعه خلقا لا يشبه حدثا آخر يتكرر في كل الروايات والقصص والتاريخ.. وأريدك أن تكون شاهدًا ،
أن تضع روحك بين يدي لأعيدها إليك متوجة بانتصاري مكلله بلغة أخرى .

سأل الكاتب ،وماذا يهمني انتصارك ؟ وماذا أريد بلغة أخرى إذا لم تكن لغتي أنا ..؟ تكلم القلم واثقا :
نحن الآن على وشك الافتراق إذا لم نجد تلك اللغة :
لغه توصنا الى ملتقى الأزمان وحيث يكون المكان مانعا من التكرار، والتكرار نفسه يصبح تجددًا ، لا فناء
ولا عدم .وحيث يستغني الحدث عن الفاعل.مادام الذي يحدث فقط ،ليس قبله بعد وليس بعده قبل وتصير
الكلمة والجملة بألف ألف معنى.والحياة حياة لحظة‌ واحدة‌ لكننا نعيشها بالتقسيط ،وهي لحظة‌انفجار مستمر..
لمَ إذن لا تكون لغتك ،ولغتي ولغة‌أخرى!؟ لغة الإحتمالات كلها التي نعرف ولم نعرف؟
-إذن ،لن تحكي ،لن تكذب ! استفسر الكاتب واجاب القلم :
-كذبة الحكي تجعل اللغة سردا عاجزا عن لمّ الشتات ورتق الشظايا.كذبة الحكي ليس في قدرتها سوى تتبع
الشظايا ،لكن كل شظية هي مرآة من شظاياأيضا،والعالم فسيفساء مرايا تغير مواقعها باستمرار..
لكن من يستطيع أن ينظر في المرآة كلها دون أن تنشطر الرؤية وتمتنع الرؤيا!
-افهم لم أصبحت الحروف بارده تقيد اليدين ..فليكن!!اكتب؟ هات حدثك ،فصولك ومواسمك.
خذ هذه الروح فداء اللغة الآتية ،وامنحني القدرة على الخرس واحتمال الصمت إذن..
-ليس لك عندي بعدالآن غير لغة الضوء..

يتبع

حرك القلم ،سار إلى موضع رجلي الكاتب وبصوت المعاتب الذي يكتشف الخطأ:
انزع حذاءك! أنت تدخل هامش المقدس في واحة الكتابة ولا تعرف!؟ تدخل المرايا منتعلا جلد غيرك..
هكذا لن تستطيع معي صبرا ولن تذهب بعيدا!
ثم خطا خطوتين أو ثلاثًا وأحنى رأسه على صدر الكاتب وناجاه:
تخفف الآن أيها القلب ! ما بالك لو صرت تعدو بين أقطار هذه الصفحه ؟؟؟
لا بأس اشرح نفسك للضوء ،لتجد متسعاً ولتكون قلب المجنون والكاذب والمتنبئ والحالم..
إن لم تكن كذلك ،وإن لم يصفك العامه والسذج بالكذب ،وينعتك الراسخون في الحساب
بالجنون ويراك العميان حالما ومتنبئا فلن تكن قلب الكاتب.
حرك الكاتب رأسه موافقا وافترّت شفتاه عن بداية كلام ،فانتزع القلم صوته من باطن صدره:
-ليس بعد! انت مازلت أعمى، ولا ترى غير ما يراه الحائر حين يدركه التعب!ليس قبل أن تغلق عليك
منافذ ضوء الملموسات والمحسوسات ...أغلق كل الأبواب والكوى ولا توقد مصباحًا ولا شمعة ..
ولتكن بداية الرؤية لحظة سواد مطبق ..لقد كانت بداية ‌الخلق كلها لحظة سواد ألا تعلم ؟؟
ندّت عن الكاتب حركة عدم تصديق وأبى إلا أن يستسلم ..
بادره القلم :
-أعرف ما ينطق به سرك .ألم أقل لك ،ليس بعدا؟ ليس قبل أن أشرح صدرك وأجعل من جسدك قرباني ..
انغلقت النوافذ والأبواب ، وتوارت الأشياء وفاض الضوء من جهات مختلفة ،وتقلب الكاتب على جنبيه ،فوق
الورقة،رأى المصابيح منطفئة ،ومسارب الضوء موصدة .ولكن الضوء مازال يعشي النظر.ورأى القلم
مجللا بوقار ملك لا يشبهه ملوك الأرض ..وعاجله القلم بالجواب عن السؤال :
-لا تسأل عن أشياء ..! ادخل غرفتك الأصلية ولا تسألني فلن تسمع غير صوتي ،ولن ترى إلا ببصيرتك ...
فاسمع وأبصرألم أقل لك إن الكون فسيفساء من المرايا! وكل مرآة فيه تشع بذاتها ،والسواد فيها ملتقى كل الألوان.
وأصل الألوان سواد،والأصوات حركتها ،حركة صلصال يلد مخلوقاته السرية التي تصرخ صرخة ‌الولادة‌الأولى
بين طرفة‌عين وأخرى وتزجي الحروف مواكب وسحابات وتيجانا وأشجارًاوضحكات عذارى ؛إن العين لترى،
وإن الحروف تزحف على الجدران المشعة ،وترسم خرائط سفر ،تغادر الأسفار لتصنع أسفارا وعناوين تتناثر ،
لا تستقر على حال ،وليس للأشياء ما للأشياء من عرض وصور ،فهي جبال تتفجر أنهارا وهي أنهار تنبثق عيونا
والعيون تلد بحارا والبحار تطوي بحارًا .والموتى يعيشون على ضفافها مالم يعيشوه من فرح مؤجل ،والإنسانالآتي
يحبو، لم يعد بحاجه إلى كلمات ولا مداد ولا قلم ..والكاتب فيه شاهد ،يحيا عمر الموتى ومن يحبو ،يوزع الظلال
والأحجام والخطوط ويغترف من بركة اللون أضواء المعنى السابح في الإمكان ،ويضع علامة عند نهايه ما يقرأ.
-وما يكتب ،عند لحظة الإنشطار قبل أن يصير الماء ماء والتراب ترابا والهواء والنار هواءا ونارا..


يتبع

صمت القلم ،وبقى صدى يتردد بين العين والقلب:
-في سواد المداد كل الألوان ،ومن لا يرى في السواد أعمى حقا .
-واحة الكتابة ليست سوى إقليم السواد حين يشع مرايا.
-وجنية الواحة عاشقة نارية فاتنة تراود عشاقها وتسبل عينيها لكي ترى بعينه.
-عاشق الكتابة من يمسك شعر المعشوقة الأسود وهي تهرب بعيدا طائرة ..
- لا تلد معشوقة الكاتب غير قربان يحمله الكاتب الى قمة الجبل النائي ،في قلب الواحة،ويتركه هناك لكي
يستمر اللقاء اليومي بين الليل والنهار ،فيكون النهار في قلب الليل والليل في قلب النهار.





يستيقظ الكاتب ،يتلمس أطرافه ،ينظر إلى النوافذ والأبواب المغلقة ..يرى ضوء النهار قد غمر غرفته ،
يتجه خطوات يمد يده إلى أول نافذة ،يقتحم كافة المرايا.. يلقي نظرة إلى الشارع ويبصر مخلوقات
برؤوس ثعابين وقرده وسباع ..يرى شياطين تطارد الضوء وتسد عين الشمس..
قال الكاتب : هل كنت أحلم من قبل أم أني أحلم الآن ..؟
لعله الفارق بين ليل الكتابة وليل الناس مازال عالقا بخيط شعرة .!
ثم فتح بقية النوافذ والأبواب......


منقووووووووووووووول

ما اجمل لغة الاقلام حين يحتل الكاتب مكانها ويعبر عما قد يدور بداخلها

ورغم انه جماد بلا روح الا ان مدادها ينسج امالا وبيني احلاما ويهدم

اشخاص ويبني اخرين فالقلم هو اول ما خلق الله عز وجل لانه اعلم

بقدره وهو العزيز العليم ، فاقلامنا تعبر عما بداخلنا من حزن واسي

وفرح وسرور تطاوعنا مهما كتبنا فأن كتبنا بصدق وامانة

وشجاعة طاوعتنا وهي مسرورة وان كتبنا بكذب وخوف ونفاق

طاوعتنا وهي مرغمة حتي وان اعترضت بداخلها فهي اعتادت

علي صدقنا الذي لا نخشي فيه لومة لائم فاذا كذبنا احسسنا بها ترتجف

بأيدينا وكأنها تعلن اعتراضها علي ما سنكتبه ولكن علي استحياء

فهي مسخرة لنا وما عليها الا السمع والطاعة فالقلم بالنسبة للكاتب قلبه

النابض بالحياة اذا توقف نبضه توقفت حياته فهو يعمل جاهدا

ان تظل نبضاته ويستمر في نشر مداده دون ان يأتي احدا

فيكسره ويكسره معه .

شكرا سعيد

رغم انك تناولت جانب هام جدا فى الموضوع الا وهو حوار القلم

مع الكاتب الا ان المعنى المقصود اعمق من ذلك بكثير فالكاتب يريد

ان يوضح لنا الفرق بين الرؤية بنور البصر والرؤية بنور البصيرة

ويتضح ذلك مما يلى :


اعيننا لا تستطيع ان ترى الحقائق كاملة فقد اعتادت على الامور

الحياتية المحسوسة وا يمكنها ان تشعر بالجانب المعنوى فى الامور

فهو جانب تدركه انوار البصيرة وتشعر به الروح لا الجسد


هنا يطلب القلم من الكاتب ان يعطيه روحه ولم يطلب الجسد لانه

مل من هذا الجسد وتفكيره العقيم


هنا وفى هذا الموقف المهيب علم القلم الانسان كيف يرى بنور البصيرة

التى تُدرك الاشياء حتى فى الظلام فرأى كل شىء حتى فى ظل اطفاء

الانوار الملموسة فهو الان يرى بالمحسوس .


من لايرى فى السواد اعمى لان من لايرى فى السواد يرى

بنور البصر ام من يرى فى السواد فهو يرى بنور البصيرة

- اما فى نهاية الموضوع يقول الكاتب




الان وفى هذه اللحظة استطاع الكاتب ان يرى الامور على

طبيعتها فراى البشر على حقيقتهم فما هم الا مخلوقات تعيش فى

غابة كبيرة يسمونها عالم البشر . الموضوع فيه الكثير والكثير

ولكن لا سطور تحتويه ولكن اجمالا يمكن القول لكى ترى الامور

على طبيعتها وحقيقتها وتعبر عنها بقلمك يجب ان ترى بنور

البصيرة لا بنور البصر ولتعلم ان جسمك مادى يجب ان تدعه

وانت تكتب فلا تمتلك منه سوى يدك وقلمك ولتعبر عما ترى

بروحك لا بجسدك . شكرا ايمن على المرور الكريم بالموضوع