من أسرار القرآن (410)
بقلم: د. زغلول النجار
ياأيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم
عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ( الحجرات:31)
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الأخيرمن سورة الحجرات,
وهي سورة مدنية, وآياتها ثماني عشرة(18) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم
لورود الإشارة فيها إلي حرمة بيوت النبي- بصفة خاصة- وبيوت الناس بصفة
عامة- ويدور المحور الرئيس للسورة حول عدد من القيم الأخلاقية والسلوكية في
تعامل المسلمين مع ربهم, ومع نبيهم, ومن ثم مع بعضهم البعض, ومع الناس
كافة.
من أوجه الإعجاز في الآية الكريمة
أولا: الإعجاز العلمي:
تثبت الآية الكريمة أن البشر جميعا يعودون في خلقهم إلي أب واحد وأم واحدة
هما آدم وحواء- عليهما السلام- وهو ما أكده علم الوراثة أخيرا. وفي ذلك
يقول رسول الله- صلي الله عليه وسلم- في حديث طويل:.... إن النطفة إذا
استقرت في الرحم أحضرها الله- تعالي- كل نسب بينها وبين آدم... أما قرأت
هذه الآية في كتاب الله تعالي: في أي صورة ما شاء ركبك قال: أي شكلك؟(
الطبراني).
وهذه الحقيقة- حقيقة توارث الصفات عن الأب الأول للإنسانية وهو آدم- عليه
السلام- لم تبدأ المعارف المكتسبة في إدراك طرف منها إلا في أواخر القرن
التاسع عشر الميلادي( مندل سنة1866 م). ولم تتبلور هذه المعرفة إلا في
أوائل القرن العشرين( مورجان سنة1912 م), ولم يتم فهمها إلا بعد منتصف
القرن العشرين( واتسون, كريك سنة1955 م). ولم يفهم دور الأم الأولي للبشرية
حواء- عليها رضوان الله- في تسلسل البشرية إلا في أواخر القرن العشرين(
روي ليمون سنة1993 م) الذي قال إن الدراسات الحديثة في علم الأحياء الجزيئي
قد أثبتت إمكانية تتبع السلالات الأحيائية بواسطة الحمض النووي في بعض
عضيات خلية البييضة, وهي معروفة باسم( المتقدرات) لأنها تحوي قدرا من الحمض
النووي الذي لا يورث إلا من الأم فقط. وبذلك فإن نسبة جميع الإناث البشرية
اللائي يملأن جنبات الأرض اليوم, واللائي جئن من قبلنا, واللائي سوف يأتين
من بعدنا حتي قيام الساعة, يمكن نسبتهن جميعا إلي أم واحدة هي أمنا حواء-
عليها السلام- وذلك من خلال قطيرات الحمض النووي في المتقدرات الموجودة في
خلاياهن.
وإرجاع الناس جميعا إلي أب واحد وأم واحدة هما آدم وحواء- عليهما السلام-
أصبح من حقائق العلم التي سبق أن أكدها القرآن الكريم, كما أكدتها السنة
النبوية المطهرة. ويدعم ذلك ما نشاهده في حياتنا اليومية من نسبة الذرية
إلي الآباء والأمهات, ثم إلي الأجداد والجدات إلي نهاية تصل إلي أصل
البشرية كلها وهما آدم وحواء عليهما السلام.
وفي قوله تعالي:... وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.. يشبه قوله تعالي..
وبث منهما رجالا كثيرا ونساء..( النساء:1) مما يؤكد مرد البشرية جمعاء إلي
أب واحد وأم واحدة, مهما اختلفت ألوانهم, ولغاتهم, وأعراقهم, ومهما تفرقوا
شعوبا وقبائل, وتباعدت بينهم المسافات, وفرقتهم المعتقدات. وهذا هو وجه
الإعجاز العلمي في الآية الكريمة.
ثانيا: الإعجاز التشريعي:
يتضح وجه الإعجاز التشريعي في هذه الآية الكريمة في التأكيد علي حقيقة
الأخوة الإنسانية التي ينتهي نسبها إلي أب واحد وأم واحدة. ولو فهم أهل
الأرض هذه الحقيقة القرآنية والعلمية لانتهت كل النزاعات والحروب الساخنة
والباردة التي أغرقت الأرض في بحار من المظالم والدماء والأشلاء والخراب
والدمار.
والذي يخاطب الناس هو ربهم وإلههم الذي خلقهم لرسالة محددة هي عبادته-
تعالي- بما أمر, وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة
شرع الله وعدله في ربوعها. ولو فهم أهل الأرض هذه الحقيقة لانتهت كل
النزاعات والصراعات والخصومات والتناحر بين الأخوة والتي يغذيها الشيطان
وجنوده وأعوانه, كما يغذيها الطمع البشري, والأنانية الشخصية, وحب
الاستعلاء علي الخلق بالباطل والتفاخر بالأنساب, والازدراء بالضعفاء
والفقراء من أهل الأرض.
ولرسول الله- صلي الله عليه وسلم- في ذلك أقوال عديدة نختار منها ما
يلي:(1) يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد, لا فضل لعربي علي عجمي, ولا لعجمي
علي عربي, ولا لأسود علي أحمر, ولا لأحمر علي أسود إلا بالتقوي, ألا هل
بلغت؟ قالوا: بلي يا رسول الله! قال: فليبلغ الشاهد الغائب( أخرجه
البيهقي).(2) كلكم بنو آدم, وآدم خلق من تراب, ولينتهين قوم يفخرون
بآبائهم, أو ليكونن أهون علي الله من الجعلان( أخرجه أبو بكر البزار).(3)
وقال عن العصبية الجاهلية: دعوها فإنها منتنة( أخرجه مسلم). وقال: ليس منا
من دعا إلي عصبية. وهذا تفسير لقوله تعالي:... وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا... أي ليعرف بعضكم بعضا, فلتصلوا الأرحام, وتتبينوا الأنساب,
وتتعاونوا علي البر والتقوي, لا علي الإثم والعدوان, ولا للتفاخر بالآباء
والأجداد, ولا بالمال والسلاح, ولذلك ختمت الآية الكريمة بقول ربنا تبارك
وتعالي... إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير ومعني ذلك أن أكرم
الناس علي الله- تعالي- في الدنيا والآخرة هو أتقاهم لجلاله, والتقوي تعرف
بالخوف من الجليل, والعمل بالتنزيل, والاستعداد ليوم الرحيل, أي هي فهم
حقيقة رسالة الإنسان في الحياة: عبدا لله, يعبد ربه بما أمر, ويحسن القيام
بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله في ربوعها,
استعدادا للنقلة الكبيرة من الدنيا الفانية إلي الآخرة الباقية. لذلك أكدت
الآية الكريمة عبودية الخلق جميعا لله رب العالمين, كما أكدت الأخوة
الإنسانية العامة التي أثبتها العلم, والتي لا تتمايز فيما بينها إلا
بمعيار واحد هو تقوي الله تعالي. وهذا المعيار هو الذي يحكم به ربنا تبارك
وتعالي علي جميع عباده لأنه يحقق العدل بينهم, وينقذ البشرية من العنصرية
الكريهة التي حاربها الإسلام العظيم في كل صورها وأشكالها. لذلك ختمت الآية
الكريمة بقوله تعالي... إن الله عليم خبير وهو تأكيد أن الله عليم بجميع
خلقه, مطلع علي ظاهر كل فرد منهم, وبواطنه, فيعلم التقي من الشقي, والصالح
من الطالح, لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهو- تعالي- يحكم علي
عباده بعلمه الشمولي الكامل المحيط بكل شيء, وبخبرته الواسعة بخلقه, فيزن
أعمالهم بميزان عدله المطلق الذي لا يظلم أحدا. وهنا تتضح ومضة الإعجاز
التشريعي في هذه الآية الكريمة.