بعد أن انتشر الأمن واستقرت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة, بين جميع أطيافها من مسلمين ويهود ومشركين-في إطار وثيقة المدينة التي عملت على تحقيق مبدأ العدل والمساواة بين سكان المدينة على أساس المواطنة لكل فرد من سكانها- عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تأكيد حالة الأمن فيما حول المدينة.
وبعد أن عقد صلح الحديبية مع قريش, ليأمن بذلك الجهة الجنوبية من المدينة وتكون الدعوة الإسلامية في حرية- عمد إلى تأمين الجهة الشمالية للمدينة فعقد معاهدات مع غير المسلمين خارج حدود دولة المدينة, حيث عقد اتفاقية سلمية مع نصارى نجران في العام العاشر من الهجرة, ومع يهود فدك وأيلة وتيماء, ومع بني صخر من كنانة.
أما عن وفد نجران فقد صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأقامهم في شطر مسجده يؤدون شعائر دينهم, وكتب لهم عهدا جاء فيه: ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله: على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم, لا يغير أسقف عن سقيفاه, ولا راهب عن رهبانيته، ولا واقف عن وقفانيته, ويروي: ولا وافه عن وفهيته. وهو القيم على البيت المعد لعبادة النصارى.
وكذلك نص صلى الله عليه وسلم في معاهدته معهم: أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم, لا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش, ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين (الطبقات الكبرى لابن سعد 1/288).
وقد جاء هذا الوفد لمناظرة ومجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم, فلم يكن من همه أن يسلم أو يفكر في الإسلام, فعمد النبي إلى طريقة أخرى في المعاملة والحوار بصورة تختلف عما فعله مع الوفود الأخرى, ففي البداية حين دخلوا عليه وسلموا عليه, لم يرد عليهم السلام ولم يكلمهم, ونصحهم سيدنا علي بن أبي طالب بأن يضعوا حللهم وخواتيمهم ثم يعودوا إليه, ففعلوا ذلك فسلموا فرد عليهم سلامهم. (دلائل النبوة 5 للبيهقي5/378).
ولما أرادوا أن يصلوا بالمسجد عندما حان وقت صلاتهم, هم بعض المسلمين بمنعهم فقال صلى الله عليه وسلم: دعوهم! فاستقبلوا المشرق وصلوا صلاتهم. يقول ابن القيم: في القصة جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين, وفيها تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضا إذا كان ذلك عارضا, ولا يمكنون من اعتياد ذلك (زاد المعاد3/557).
ولقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاورته مع وفد نجران طريقا آخر يذكرهم فيه بالقاسم المشترك بين الأديان, وهو أن يكون التوجه والمرجعية لله وحده ليفصل بين المختلفين من أتباع الديانات, خاصة في مسائل أصول الاعتقاد, وذلك تنفيذا لأمر الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ) [آل عمران:61].
فوادعوه على الغد, فلما أصبح أقبل ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي رضوان الله عليهم, وقال: اللهم هؤلاء أهلي, ولما رأى وفد نجران أن الأمر جد لا هزل فيه, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ماض فيما اتفق معهم عليه من أمر الملاعنة وتقديم حق الله على النفس والولد- راجعوا أنفسهم وتشاوروا, فقال لهم أسقفهم: إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل لهم جبلا لأزاله, فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم أحد. فقالوا: لا نباهلك. وفي رواية للبخاري: أن العاقب والسيد صاحبي نجران- قال أحدهما لصاحبه لا تفعل أي المباهلة فوالله لئن كان نبيا فلاعنا, لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا إنا نعطيك ما سألتنا, وابعث معنا رجلا أمينا, ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين. فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة (البخاري 5/171).
هذا هو نهج الإسلام, وهكذا كانت حكمة الرسول في التعامل مع الآخر, كل بحسب طريقة تفكيره وتوجهاته العقدية, في إطار من قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [النحل:125] وبهذا تقع الحجة من عقل الآخر كما تقع من قلبه, فدولة الإسلام علاقتها بدول الجوار علاقة سلم واحترام وحسن تعامل, وهذا ما بدا في كتابه صلى الله عليه وسلم لملك اليمن حيث قال له: وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم, ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها. (السيرة النبوية لابن هشام 2/588). تحقيقا للتوجيه الإلهي: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8], وكذا لقاعدة التسامح وقبول الآخر في قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256].
د/على جمعة
مفتى الديار المصرية