سقطت في شق الزمن, بين الحاضر والماضي, هربت من بوتقة الإدراك إلى فسحة في جدار اللاوعي.
ألقت مرساتها هناك.. استسلمت للنوم العميق مكتفية بقربة محاليل تُشرف على اعطائها لها كل يوم, ممرضة عجوز تربط جبينها بعصابةٍ سوداء...
ملقاة على السرير في غرفة شبه مظلمة تقع في آخر الزوايا عند انكسار الضوء المنبعث من أنوار بهو المنزل. غرفة فارغة لا يوجد فيها إلا السرير الذي يتوسطها وستارة على نافذة وحيدة متشمعة من أثر ما التصق بها من غبار السنين, لا أحد يأتي لزيارتها سوى ولدها أحمد, الذي لا يتذكر منها سوى هذا الجسد المتهالك على سرير كالتابوت في شكله وبرودته.
تتذمر المرأة العجوز كلما رأت أحمد, وتدعي أن ما تقوم به أكثر بكثير مما تأخذه مقابل عملها.. يضع أحمد في يد العجوز ما يرضيها, ثم يتجه إلى أمه.. يحدثها عن آخر أخبار الأسرة, وآخر أخبار البلاد أيضاً, وأحيانا يُلقي بعض النكات التي يسمعها من أترابه.. ثم ينهض بعد أن يهمس في أذنها: أمي أنا انتظرك...
.......
الأعياد موطن الفرح والتآلف الأُسري, ومن باب الواجب, ومراعاة لشعور أحمد, تتجمع العائلة في الأعياد حول الكيان الملقى على شرفة بعدٍ ثالث.... يلقون عليها التحية ويتمنون لها الشفاء.. يشربون القهوة.. يتحدثون لدقائق ثم ينصرف كل منهم إلى شأنه.
في هذا العيد الذي كان له مذاق مختلف, حيث صادف هذا العيد دخول فصل الربيع, أحضر أحمد بعض علب الحلوى وأعدت المرأة العجوز _ذات العصابة السوداء على رأسها_ بعض القهوة استعداداً لاستقبال بقية أفراد العائلة...
جلس أحمد قُرب أمه وراح يُحدثها إلى أن حضر الزوار, امتلأت الغُرفة بالحديث والضحكات وأحمد يحني رأسه بين اللحظة والأخرى, يهمس لأمه ببعض التعليقات الساخرة الذي يقولها الزوار حول بعضهم.
عندما أزف رحيلهم, أمسك أحمد بيد أمه واقترب من أذنها وهمس: إنه العيد, ألا يحرك هذا فيكِ شيئاً.. دمعت عيناه وقال ألا تريدين أن تريني ولو لمرة..... وقف شعر رأسه وكاد قلبه أن يتوقف عن الخفقان عندما رآها تفتح عينيها بصعوبة.. صاح: إنها تفتح عينيها!
تجمعوا حولها, تسمرت نظراتهم على العينين التي بدأت تدب فيهما الحياة.. نظرت إليهم, قالت في نفسها إنها نفس الوجوه الباهتة.. نفس الابتسامات الفقاعية.. لاشي تغير غير هذا الذي يحملونه في ايديهم.. حانت منها التفاته إلى الشاب الذي يجلس قربها, سألته: من أنت؟
أجاب أنا أحمد, ولدك الذي نمت وتركتيه وهو لا يزال يحبو..
أشارت إليه أن يقترب بوجهه أكثر.. ففعل.. حاولت تقبيله.. صاح أحدهم ألا تريدين أن تعرفي ماحصل خلال هذه السنين, أنظري, أصبحت الهواتف الآن تُحمل في الأيدي, وأصبح التلفاز فيه أكثر من ألف قناة..
نظرت إلى أحمد وطلبت منه أن ينحني لتعانقه فهي لا تستطيع النهوض...
وبعد أن فعلت.. أسدلت أجفانها لتعود إلى غيبوبتها, ولسان حالها يقول من يحتاج إلى هاتف في يده, بينما جسده تفترشه الأسقام..
هزها أحمد بكلتا يديه لا لا.. لن أسمح لكِ بالموت ثانية, ضل يصرخ..
أشفقت على ولدها.. أرادت النهوض لكنها لا تستطيع.. وبقيت بين عقلها الذي يشدها إلى غرف اللاوعي وفتاها الذي يدعوها للنهوض لترافقه في مسيرة دربه الربيعي....... مازالت مستلقيه بين النوم واليقظة.. ومازال أحمد يحاول... بينما ضلت المرأة العجوز تتمتم ببعض التعاويذ لتعود المرأة إلى غيبوبتها, كي تحتفظ بمكانها....
بقلم: أمل عبدربه