سبع بولاق العظيم
...............................
نحن الآن في يوم14
أبريل سنة1800 أنذرت القوات الفرنسية حي بولاق بالتسليم, فرفض أهلها كل
انذار, واجابوا بإباء وكبرياء, انهم يتبعون مصير القاهرة, وانهم اذا
هوجموا فهم مدافعون عن أنفسهم حتي الموت.
أخذ الجنرال فريان
يحاصر المدينة وبدأ يصب عليها من المدافع ضربا شديدا, أملا في إجبار
الاهالي علي التسليم لكنهم اجابوا بضرب النار, واستبسل الاهالي في
الدفاع, ولجأوا الي البيوت فاتخذوها حصونا يمتنعون بها, فاضطر الجنود
الي الاستيلاء علي كل بيت فيها والتغلب عليها بقوة الحديد والنار, وبلغ
القوم في شدة الدفاع حدا لا مزيد بعده, وفي هذا البلاء عرض العفو علي
الثوار, فأبوا.
واستمر القتال, فجعلنا المدينة ضراما,
وأسلمناها للنهب, وصار أهلها عرضة لبطش الجنود وتنكيلهم, فجرت الدماء
أنهارا في الشوارع, واشتملت النار أحياء بولاق من أقصاها لأقصاها,
وعادت تلك المدينة العامرة الزاهرة, هدفا للخراب, وأهلكتها أهوال الحرب
وفظائعها.
هكذا يشهد المؤرخ الفرنسي مسيو جالان الذي رأي تلك الاحداث رؤية العين.
ومن
المؤكد أن مسيو جالان لو قدر له أن يعيش داخل حواري وأزفة بولاق لاستطاع
ان يضيف الي ماكتبه فصلا حافلا عن الروح المتوثبة التي كانت تحرك جمر النار
في تلك الأحداث التي أوردها ولتجسدت هذه الروح في شخصية الحاج مصطفي
البشتيلي الذي يسمونه سبع بولاق
كان مصطفي البشتيلي سبعا حقيقيا.
يرجع نسبة الي قرية بشتيل بجوار امبابة. استطاع ان يصنع من نفسه احد نجوم
ثورة القاهرة الثانية. لا عن حب في النجومية أو رغبة في الخلود بل عن حب
حقيقي وصادق لبلده ولأهلها. لم يكن طامعا في جاه أو منصب أو مكسب مادي
فقد كان ثريا واسع الثراء, كان أكبر تجار الزيت الذي يبيعه للناس. لكن
حبه للناس وارتباطه بهم أضفي علي قدوره قيمة عليا وملأها بزيت جديد, زيت
لايستخدم في الطعام بل ينير للمناضلين طريقهم نحو تحرير بلدهم من سيطرة
العدو المغير. ازدوج نشاط الحاج مصطفي البشتيلي مثلما ازدوجت وظيفة قدور
الزيت. في الظاهر يبيع ويشتري وفي الباطن يتأجج بالثورة.. يمد يده داخل
القدور ويستخرج ماخزنه فيها من بارود ويوزعه علي المجاهدين.
انكشف
أمره فقبضوا عليه وأودعوه السجن ثم أخرجوه. وكان دخوله السجن كفيلا بأن
يقضي علي بذور الثورة في نفسه خاصة بعد ان تأكد له ان بعض الخونة قد وشي به
لدي القوات الفرنسية. لكن كبار القلوب من طبيعتهم ان يغفروا لصغار
النفوس سقطاتهم وان يظلوا محتفظين بتمسكهم لاتقعدهم عن أهدافهم الكبيرة مثل
هذه السفاسف الصغيرة.
أفرغ قدور زيته وحمل بارودها في حزام تمنطق
به حول وسطه ومضي يحرض علي الثورة ويدعو لها ويبادر إلي اشعالها,
المقاتلون في حاجة الي سلاح, فليذهب بنفسه ويجمع لهم العديد من البنادق
والعصي. وهم في حاجة ايضا الي طعام, ومخازن الفرنسيين تكتظ بالغلال,
ان المكافحين أولي بما في هذه المخازن وأصحاب الحق الأول فيها ولابد من أن
تعود اليهم والأمر بعد ذلك محتاج الي حسم وتنفيذ..
ويذهب البشتيلي
الي مخازن الغلال فيفتحها عنوة ويوزع مافيها علي المجاهدين. نعم ستثور
الحامية الفرنسية في بولاق, ولكن لابأس من ايقافها عند حدها. انها ـ
الحامية ـ تبعث الي رجال البشتيلي برسول يطلب الصلح فكيف يتصالح النقيضان؟
لابد ان يقتل هذا الرسول. وقد حدث.
وقبل ان تثور الحامية من
جديد كانت ثورة البشتيلي قد اندفعت الي الحامية وفتكت بها عن آخرها.
وامتدت ثورته الي خارج بولاق وتصدت لمحاولات كليبر في عقد الصلح مع أهل
القاهرة فعارضتها وخلقت حولها المعارضين..
يتدخل مولانا الجبرتي بقوله: دعني أحكي لك المشهد الأخير في قصة سبع بولاق العظيم..
قلت: تفضل..
قال:
لم يكن غريبا ان ينتهي ـ علي يد كليبر بالذات ـ هذه النهاية الوحشية
الفاجعة. فرغم ان الثورة كانت قد انتهت, الا ان كليبر امر بالبحث
عنه. وظلوا به حتي امسكوه وأودعوه سجن القلعة وحده امعانا في تعذيبه.
وبعد
حوالي ثلاثة ايام اخرجوه. وجاءوا وسلموه لرجاله, وأمروهم بأن يطوفوا
به أنحاء القاهرة تحت حراسة الجنود الفرنسين. ثم أمر كليبر المجاهدين
بقتل زعيمهم بأيديهم فلم يملكوا رفضا. وانهالوا علي البشتيلي بالنبابيت
حتي قتلوه. غير أنهم كانوا وهم يقتلونه يهتفون بحياة.. سبع بولاق
العظيم!
منقوووووووووووووول
............................