إنسان عشوائي - بقلم/ ناصر عنتر
كثرت هذه الأيام الأحاديث والبرامج التليفزيونية وجميعها تتكلم فى موضوع واحد. وهو "حديث الثورة", وكثرت معها الآراء والمسميات. فهذا رأيه أن من هاجم أقسام الشرطة و قتل فهو شهيد وآخر رأيه بأنه مجرم. هناك من يؤمن بأن جماعة 6 ابريل هى شرارة الثورة, وآخر يؤمن بأن انقاذ الثورة فى يد البرادعى.
ومن ذلك ظهرت مسميات جديدة. فهذا ناشط سياسى, والآخر ناشط حقوقى.
وأصبح الطبيب كاتب سياسى. والمهندس ناشط حقوقى. ولاعب الكرة عضو برلمان. و الفنانة رئيسة حزب... و ربما المذيعة تصبح رئيسة جمهورية !
كل هذا يحدث من حولى ولا أهتم به ولا يعنينى فى شئ......
جاء فى ذهنى هذا السؤال وأنا أنظر لنفسى فى المرآة أثناء ارتدائى ملابسى و أستعد للخروج لمقابلة بعض الأصدقاء القدامى, وذلك بعد فترة طويلة من تخرجنا من الجامعة. و ذهب كل واحد منا فى طريقه.
وخرجت من بيتى للذهاب الى الموعد وكان اللقاء فى مقهى شعبى قريب من بيتى.
وبحلول الساعة الثامنة مساء بدأ وصول الأصدقاء.
وحيث أنى كنت أول الحاضرين للموعد, ربما شوقى لذكرايات الماضى هو ما دفعنى للحضور مبكرا.
وبمجرد رؤيتنا الى بعض.
لم نتمالك مشاعرنا, ولم يسلم أى منا على الآخر, بل وقفنا صامتون. كل منا يطالع وجه الآخر فى صمت ونقترب من بعض فى خطوات هادئة, حتى وجدنا أنفسنا جميعا نقف فى دائرة نصف قطرها صفر.
وعانقنا بعضنا فى شوق رهيب ولم يفرق هذا العناق الا صوت بكاء أحدنا من فرحة اللقاء.
وجلسنا جميعا وتبدلت دموع الفرحة بضحكات اللقاء بعد الفراق.
وبدأ كل منا يسأل سؤال واحد.
أخباركم ايه؟ ........ و الدنيا عملت فيكم ايه؟ .......
ومن الشكل العام لكل واحد كنا نستطيع أن يكتشف كل منا الآخر.
فهم جميعا تغيروا وتشابهوا فى شئ واحد. أناقة الملبس مع السيارة الفخمة.
و أثناء الحديث حضر عامل المقهى وهو يسأل.
تشربوا أيه يا بهوات ؟
طلب أصدقائى كوكتيل, وعصير مانجو, أو قهوة دبل وشيشة.
وطلبت أنا واحد شاى كشرى من أبو خمسون قرش.
عدنا الى حديثنا الشيق وكنا ننظر الى بعض فى شغف ليطمئن كل منا على الآخر.
وبمجرد وصول المشاريب بدأ كل منا يشرب مشروبه.
وتغير الحديث بسؤال أحد الأصدقاء...
ايه رأيكم فيما يحدث فى البلد الآن ؟؟
ومن هنا بدأ الحديث يتغير والذى تمنيت أن ينتهى ولم يقطعه فى كل مرة
الا عامل المقهى وهو يحضر مشاريب جديدة.
كنت أراقب أصدقائى وكل منهم يدافع عن رأيه بكل قوة وثقة. وكان من الواضح أيضا أنهم جميعا مختلفون فى المذهب السياسي.
وفى كل مرة كنت أحاول المشاركة فى الحديث كان يتم قطع كلامى, ويكملون حديثهم مرة أخرى بدون حتى التعليق على حديثى. لذلك فضلت الأستماع عن المشاركة.
ومع مرور الوقت ومشروب يلى الآخر يزداد الحديث سخونة و بدأ صوتهم يعلوا.
حتى أنتبه جميع رواد المقهى الى الحديث. حتى أصبح صوت أصدقائى هو الصوت المسموع فقط داخل المقهى, وكل من حولنا ينتظر فى شغف من سينتصر برأيه.
المشهد أصبح ساخنا. الأختلافات فى الرأى تزيد وأشعر بأن الأفساد فى الود يزيد أيضا. الصوت يعلو, والتلويح باليد بدأ يزداد أثناء الحديث.
كل هذا المشهد الدرامى أمامى وأنا فى عالم آخر.
أتذكر أيام زمان فى الجامعة و نحن مجموعة واحدة. نقتسم الساندويتشات.
ونجرى معا خلف الأتوبيس. ونلعب الكرة بين المحاضرات.
آه آه آه آه
هذه صرختى المدوية داخل المقهى والتى أسكتت جميع المتحدثين.
وللمرة الأولى منذ جلوسنا ينتبه الأصدقاء لى وشعروا بأنى أجلس معهم.
لقد سقطت من يدى كوب الشاى !
وحمدت ربى بأنها لم تكن ساخنة, حيث أنها فى يدى منذ ساعتين. ووجدت أصدقائى يحمدون الله على سلامتى وقال لى أحدهم.
الحمد لله كانت هتاخد عينك التانية !
هذه الكلمة نزلت بردا وسلاما. وعدنا مرة ثانية نضحك و لكنهم تابعونى بسؤال عن الحادث الذى أصاب عينى ؟
سعدت جدا بهذا السؤال. لقد جاء الدور على الآن فى الحديث وسأكون موضع اهتمام وسيسكت الجميع, و أتكلم أنا. وستسقط المفاجأة عليهم كالصاعقة عندما يعلموا بأنى فقدتها يوم 25 يناير وأنا أشارك فى الثورة و كنت أنادى.
عيش حرية عدالة اجتماعية.
فأنا الوحيد الذى يحمل هذا الوسام. أصدقائى سيفاجئون بأنى من ثوار يناير.
ولكنهم لم ينتظروا الأجابة على سؤالهم. فقد ردوا بسؤال آخر.
هل أنت ليبرالى أم أسلامى أم.....أم...؟
كنت أتمنى أولا الأجابة عن السؤال الأول. ولكن جاوبتهم على الفور.
أنا انسان عشوائى !
و للمرة العاشرة لم يكملوا حديثهم معى.
بل حتى لم يسألوا بماذا أقصد بأنى انسان عشوائى.
وعادوا الى مناقشتهم الساخنة وصوتهم المدوى. وكل من حولنا يسمعهم وكأنهم يقولون فى أنفسهم. الى أين ستصل نتيجة الحوار؟؟؟
ولم ينهى هذا النقاش الحاد الا بالطبع المنقذ دائما. عامل المقهى وهو يطلب حساب المشاريب, حيث أنه حان موعد التشطيب.
وضعت يدى مسرعا فى جيبى لكى أكون أول من يهم بدفع الحساب كعادة المصريين. لكنى وجدت أن كل منهم يقوم بدفع حساب مشاريبه فقط.
حمدت ربى بأنى سأدفع فقط ثمن الشاى الذى لم أشربه. فثمن المشاريب ربما تزيد عن خمسون جنيها.
ثم وقفنا لكى نجهز أنفسنا للرحيل.
وتصافح كل منا الآخر بأطراف أصابعه. ومضى كل واحد فى طريقه لكى يستقل سيارته الفارهة.
والغريب أننا لم نتفق على موعد للقاء آخر.