كان الانتماء لمحافظة قنا كفيلا
لأن يثير الارتياح والطمأنينة في نفس كل من أقابلهم, حيث عرف عن سكانها
الطيبة والكرم والشهامة والجدعنة. الآن أصبحت ماركة مسجلة للتشدد والتوتر
والعصبية. وعندما يعرف الناس إنتمائي لقنا يقابلون ذلك بابتسامة ساخرة, تنم
عن الضيق وعدم الرضا. فقد انتقلت المحافظة من الهدوء للصخب وبدت رمزا
للقلق والتمرد والعصيان والتطرف والتخلي عن الأعراف النبيلة للقبيلة.
احتلت قنا عناوين كثير من الصحف وحظيت بمساحة كبيرة في الفضائيات خلال
الفترة الماضية. تارة بسبب قطع خطوط السكك الحديدية, تعبيرا عن رفض نتائج
الانتخابات في بعض المدن والقري. وأخري للاعتراض علي محافظها السابق اللواء
عماد ميخائيل, الذي جري تجميده ثم اقالته في واقعة لم تحدث من قبل. وثالثة
بسبب قيام مسلم بقطع أذن مسيحي ونشوب فتنة تم اخمادها قبل أن تشتعل
النيران. ورابعة لحدوث اشتباكات بين قبيلتي الأشراف والحميدات. وإذا أردنا
استكمال المسبحة حتي النهاية سنجد مجموعة مثيرة من التطورات, تؤكد أن قنا
بدأت تخرج عن صمتها, اتساقا مع حالة الرفض التي سادت قطاعات كثيرة بعد
الثورة. وتزامنا مع حدوث تغيرات متعددة في تركيبة البيئة المحلية, التي
يتشدق عدد كبير من أبنائها بالتمسك بروح وعقل القبيلة, في حين تبدو
التصرفات بعيدة عن التقاليد.
ما جري بين قبيلتي الأشراف والحميدات في قنا خلال الأيام الماضية مليء
بالدروس والعبر, حيث انتقلت مشاجرة عادية, إلي خلاف عميق بين الطرفين, نكأ
جروحا كثيرة, حاولت شخصيات حكيمة في القبيلتين علاجها. لكن لأن هناك جهات
مستفيدة من اشعال فتيل النعرة القبلية, انتقل الحادث البسيط إلي معركة
استخدم فيها السلاح وظهر وسطها الجرينوف الذي يستطيع إصابة الهدف من علي
بعد خمسة كيلومترات. والمشكلة أن هذه الأزمة التي تم تسكينها بمصالحة
رمزية, تسربت عدواها إلي قبائل أخري تسكن قري ومدنا قريبة من مدينة قنا.
ففي قرية دندرة تجدد خلاف بين قبيلة تنتمي للأمارة وأخري للعرب. كما نشبت
أزمة بين قريتي الحجيرات والمعني. ناهيك عن اتساع نطاق الخلافات بين قبائل
تسكن فرشوط ودشنا والسمطا وغيرهم. وكأن رياح الثورات التي هبت علي كثير من
الدول العربية بصورة تدريجية, تحولت إلي القبائل القناوية, مع فارق مهم, هو
أن الثورات جاءت لتقضي علي سلبيات ومكونات فساد, بينما خلافات القبائل
تجددت لتتخلص من ايجابيات وتقضي علي قيم ومثل, كانت عاصما ضد أي انفلات
وضابطا لأي رغبات تخرج عن الأعراف والتقاليد التي ترسخت في وجدان الناس.
وهنا يمكن الإشارة إلي أربع ملاحظات رئيسية كشفتها أحداث المشاجرات
والاشتباكات التي وقعت في قنا.
الأولي, اختفاء دور كبار وزعماء القبائل وظهور جيل مرتبك من الشباب يتمسك
بفكرة القبيلة ويتخلي عن الروح والقيم الأصيلة التي تحكمها. بمعني أن
غالبية قبائل قنا فقدت الكثير من رموزها الذين كانوا في أوقات سابقة قادرين
علي ضبط ايقاع الأمور, لكن ورثة هؤلاء يفتقدون الحكمة ويميلون نحو إحياء
روح القبيلة بطريقة تتسم بالتمرد والعصبية وتتجاهل الثوابت التقليدية
وقلوبهم وأفكارهم شتي. فلك أن تتخيل أن تجار سلاح ومخدرات وخارجين علي
القانون وينتمون إلي بيوت بسيطة أصبحوا زعماء محليين, لمجرد أنهم قادرون
علي العطاء المادي, بينما كانت أحد شروط الزعامة سابقا, النزاهة والوجاهة
الاجتماعية والكاريزما والالتزام والعدل والحكمة والتضحية..
الثانية, كثافة السلاح في قنا. وهذا العامل يقوم بدور مهم في تشجيع البعض
علي الاحتكام إليه بسهولة. فبإمكان أي شخص الحصول علي كل ما يريد من أنواع
الأسلحة. وقد راجت هذه التجارة عقب انهيار النظام الليبي ووصلت كميات كبيرة
من السلاح إلي مجرمين وتجار وجدوا في قنا بيئة صالحة لترويج بضاعتهم. لذلك
يقوم بعض التجار بتقديم تسهيلات كبيرة عند بداية البيع وعندما يحتدم
الخلاف بين أي قبيلتين تتضاعف أسعاره. والجديد أن هناك أنواعا لم تكن
مألوفة ظهرت في قنا. فسلاح الجرينوف أصبح متاحا, حتي أن رجال إحدي القبائل
كانوا وضعوه في سيارة وتجولوا به في شوارع المدينة, للتأكيد علي قوة وضخامة
أسلحتهم. كما أن قبيلة أخري تعمدت وضعه فوق إحدي المآذن, لضمان عدم
استهدافه من أفراد القبيلة المتنازع معها. فمن الذي يجرؤ علي إصابة هدف فوق
مئذنة؟ وقد أوجد ذلك نوعا جديدا من سباق التسلح, حيث قامت القبيلة
المتنافسة بشراء عدد من الجرينوف وقاموا بنصبه فوق أسطح عمارات, بعضها يقع
علي مسافة قريبة من الطرف الآخر.
الثالثة, تراجع دور الأمن, كحال معظم أنحاء الجمهورية. لكن في قنا يجب أن
تكون المسألة مختلفة, لحساسية المكان والزمان وخطورة النتائج التي يمكن أن
تترتب عن الصراع القبلي, بعد أن خرج عن تقاليده المعروفة. ففي أحداث
الحميدات والأشراف جري تكسير متبادل لعدد كبير من السيارات والمحلات
التجارية. وتم فرض ما يشبه حظر التجوال من جانب القبيلتين في مناطق بمدينة
قنا. ولم تستطع قوات الأمن إعادته إلا بعد هدوء الأوضاع نسبيا, عقب جلستي
صلح. في إحداهما صمم رجال قبيلة الأشراف علي دخول ديوان المحافظة الذي عقد
فيه الصلح بالسلاح, خشية التعرض لهجوم مباغت من قبيلة الحميدات التي يسكن
غالبية أفرادها بالقرب من مبني المحافظة, لولا تدخل رجال الأمن الذين منعوا
ذلك. المشكلة أن تعامل الأمن مع الأزمة لم يختلف عما كان عليه قبل الثورة.
وهمه تقديم كبش فداء وتحميله مسئولية الأحداث. لذلك أصاب ضباط الشرطة أحد
أبناء الحميدات, باعتباره من أهم محركي الأزمة. وهذه الإصابة خطيرة, سيكون
لها تداعيات سلبية, إذا لقي صاحبها ربه في أي لحظة, لأنها يمكن أن تنقل
المشكلة لمواجهة مع الشرطة, المتهمة أصلا من الحميدات بمجاملة الأشراف,
بسبب وجود عدد كبير من الضباط في مديرية أمن قنا ينتمون إلي القبيلة
الثانية.
الرابعة: غياب دور المحافظ عادل لبيب, الذي كان خلال فترة ولايته الأولي
أحد أهم مهندسي المصالحات القبلية. وكان حريصا علي تذويب الفوارق بين
القبائل. لكن في الأزمات الأخيرة بدا دوره مختفيا تقريبا وفقد جزءا معتبرا
من نفوذه وقدرته علي تسوية النزاعات بالعرف والقانون أيضا. فقد كانت أبرز
نتائج الثورة إزالة حاجز الخوف من نفوس المواطنين. كما أن شبح علاقة لبيب
بنظام مبارك لا يزال يطارده. بالتالي من الطبيعي أن يتم تشكيل لجنة من20
شخصية, قبلية ودينية, لحل مشكلة الأشراف والحميدات بعيدا عنه. وفي ظل
إنتشار عدوي الخلافات أصبحت قبائل قنا في مرمي الثورات العربية.
محمد ابو الفضل
..................
الأربعاء فبراير 29, 2012 9:28 am
