كل جديد ومتميز وحصرى تجدونه هنا فى ومضات السها
كل جديد ومتميز وحصرى تجدونه هنا فى ومضات السها
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


واحـــــة الإبــداع والفــن والتــألق
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Support

 

 نظرية الشك فى الفكر الانسانى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سعيدالعارف الضبع
المراقب العام للمنتدي



عدد المساهمات : 17528
العمر : 37
الموقع : الرياض

نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Empty
مُساهمةموضوع: نظرية الشك فى الفكر الانسانى    نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Icon_minitimeالسبت مايو 05, 2012 10:45 pm

طارق الحسين – كاتب وباحث سعودي

الإنسان بطبعه متسائل شكاك لا يسلم قِيَادَةُ بسهولة، لأي قضية من القضايا، سواء كانت في الحق أم في الباطل. وهو بطيء الوثوق، لا تستقر له القناعات إلا بعد وقت من المراجعات والأخذ والرد والثورة والهدوء والتقارب والتباعد، حتى يشعر بالرضا واليقين بما تدور حوله الظنون.
ولا تخرق هذه القاعدة إلا في حالات محدودة، إما بأمر استثنائي أو بمقدمات سابقة، أو بطبيعة المتلقي سريع التأثر. ومن رحمة الله بالبشرية، أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندما جاؤوا بالرسالات، صاحبتهم أنواع من المعجزات والخوارق؛ لتوفر على الباحثين عن الحق مسافات طويلة من الشك والقلق والبحث والتساؤل. هناك خطأ منهجي في نظرتنا إلى الشك، حيث يظنه كثير منا، التكذيب والجحود والكفر والإلحاد. والحقيقة غير ذلك؛ لأن الشك في معناه لا يعني الإنكار، فقاعدته الطبيعية الجهل بالشيء، أو عدم التحقق منه، أو استواء النقيضين بمعنى التوقف والانغلاق. ومن أجمل التعريفات للشك، ما عرّفه الإمام الأصفهاني في «المفردات»، حيث قال: «الشك اعتدال النقيضين عند الإنسان أو تساويهما، وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده في النقيضين، أو لعدم الأمارة فهما.. والشك ضرب من الجهل، ويصح أن يكون مستعاراً من الشك، وهو لصوق العضد بالجنب.. فلا مدخل للفهم والرأي ليتخلل ما بينهما، ويشهد لهذا قولهم: التبس الأمر واختلط وأشكل».
نحن أمام مصطلح واضح، يجب أن تبنى عليه القضية، وتقاس على أساسه وحدوده. من هنا نجد نظرية الشك مذكورة في الديانات والمذاهب الفكرية، ليس على أنها منبع الإنكار ومبتدأ الحجود، بل على أنها في حالتها الطبيعية طريق إلى البحث، وتنقيب في المتاح، ومنطلق النظر إلى الحقيقة. أما في حالتها غير الطبيعية، فهي بحسب ما وصلت إليه؛ فإن كانت حيرة فهي حيرة، وإن كانت إنكاراً فهي إنكار.
وأظن أن من يزعم أن الشك حالة إرادية مخطئ في زعمه؛ لأن الحالة الإرادية لا تعتبر في الحقيقة شكاً، ولا يصح أن نسميها شكاً، ولا يسوَّغ أن يسمى صاحبها شاكاً، كيف وهو يتمظهر بالشك للوصول إلى الحقيقة، وفي داخله إيمان بشيء يرى أنه الحقيقة.
والذين يسيرون على هذه الطريقة لا يجيء منهم شيء معتبر؛ لأنهم لم يعيشوا حرقة الفقد للحقيقة، ولم تتقرح أكبادهم عطشاً للحق الذي يبحثون عنه. إن الذين عاشوا مرحلة الشك، وهم في حال من الصدق والتجرد، جاؤوا بما يبهر العالم بعد أن وصلوا لليقين.
يتنوع الشك من شخص إلى آخر، وإن كان منطق الشك واحد، وهو التباس واختلاط وانغلاق في الفهم، وضياع التمييز بين النقيضين. ومن أنواع الشك: الشك المنهجي، الشك النفسي، والشك المنطقي. ومن منطق هذا التقسيم، نستطيع إثبات أن المتشككين يختلفون في مقدار طلب الحقيقة والبحث عنها، فليس هناك شاك باحث عن الحق، وليس كل شاك كاره للحقيقة. فالشك المنهجي هو طل بالحقيقة وانطلاق نحو اليقين، وهو رغبة ملحة في المعرفة والخروج من الحيرة بين المتناقضات، فهو جهل وصاحبه باحث عن العلم وطالب للحق والحقيقة. والشك النفسي توقف وضعف وكراهية للخوض في شيء من تكاليف الحقيقة، لأنه حالة نفسية واكتئاب معجز. أما الشك المنطقي، فهو نوع من التبرير والمكابرة والعناد والرفض لأي محاولة تقود إلى خلاف هذا الشك.
إذن علينا التعامل مع أي حالة شك، على أساس منطلقها وسببها، فقد يكون الشك من منطلق الجهل والصدق في طلب الحقيقة، فنعتبره شكاً منهجياً صحياً. وقد يكون الشك حالة نفسية تعالج بما يناسبها، وقد يكون الشك قضية منطقية وتبريرية، وهو أبعد أنواع الشك عن الحق؛ لأنه بعد الاستغلاق وافق هوى في النفس، فذهب صاحبه إلى الجدل.
ونرى في كتاب الله عز وجل حديثاً عن هذا الشك في عدد من السور، وأشكال من البحث والتساؤل. في قصة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، عندما رأي كوكباً فقال هذا ربي ثم كره أفوله، فلما رأى القمر قال هذا ربي فأفل، ثم رأي الشمس فقال هي أكبر (من سورة الأنعام). في هذه القصة، إثبات لمبدأ الشك المنهجي والبحث عن اليقين، ولذلك سبقت هذه القصة آية ذكرت اليقين، فقال سبحانه: «وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين». وهذه الآية دلالة على أن إبراهيم عليه السلام، لم يكن في حالة إرادية، كما يظن من فسر الآيات بهذا التفسير، بل كان في حالة بحث عن الله والتعرف إليه، ولم يكن عليه السلام شاكاً منكراً، بل كان شاكاً بمعنى استغلاق الفهم واستشكال الحقيقة الإلهية عليه، وهو التعريف الذي مرّ معنا عن الأصفهاني. وأراد الله عز وجل أن يضعه في حالة من الشك بمعنى الجهل، ليكون من الموقنين العالمين، وهي بنفس المعنى الذي ورد في سورة الضحى، بشأن نبينا محمد ﷺ، حيث قال الله له: «ووجدك ضالاً فهدى»، أي باحثاً عن الحق ليس لديك علم بي فهديتك إليَّ. ويفسره المعنى الآخر في قوله تعالى: «وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت ما تدري ما الكتاب ولا الإيمان».
ولما طلب سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الله سبحانه أن يريه كيف يحيي الموتى، قال الله له: «أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي»، فهل معنى هذا الطلب ومعنى البحث عن الاطمئنان، هو نوع من الشك الجحودي الإنكاري؟ إن كلمة إبراهيم عليه السلام في قوله «ليطمئن قلبي»؛ ما يحوي بأنه بحث عن اليقين في أعلى درجاته. ولم يعاتب الله عز وجل إبراهيم، ولم يتهمه في إيمانه، بل علم صدق إبراهيم في طلب الوصول إلى أعلى مراتب المشاهدة لأفعاله سبحانه، برغم أنه نبي رسول لا يحتاج إلى ذلك. وفي سورة البقرة قصة صاحب الحمار، الذي مرّ على قرية فسأل نفسه كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم أحياه، ليصل إلى اليقين. إنه تساؤل وشك استغلق معه الفهم، واستوى عنده النقيضان، فلم يعد يدري أيستطيع الله أن يحييها أو لا يستطيع، وهذا ليس كفراً بل هو جهل أراد صاحبه أن يخرج منه إلى اليقين.
والحواريون المؤمنون بعيسى عليه السلام يسألونه: «هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنت مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين». والأمر واضح في أن الحواريين شكوا في استطاعة الله أن ينزل عليهم مائدة، ثم الأمر أكثر وضوحاً في البحث عن اليقين في قولهم: «وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين». ولم يحكم الله بكفر هؤلاء، ولا بكفر صاحب القرية، ولا عاتب إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وفي حالة الشك النفسي، ما ذكره الله عز وجل عن بعض الصحابة في غزوة الأحزاب، بعد أن بلغ الكرب مبلغه، حيث قال عنهم: «وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا»، فهي حالة نفسية يعذر صاحبها، ثم تذهب بذهاب السبب أو بعلاج المرض.
أما في حالة الشك المنطقي الفكري، فالقرآن مليء بالحديث عن الشك المصاحب للهوى، ذلك الشك المتلبس بالجدل والخصام والمكابرة، وهو أسوأ أنواع الشك فهو منطقي وفكري، وله اتصال بالنفس والهوى، وفيه امتزاج خطير بين العقل والنفس، وأبرز الذين اشتهر عنهم هذا النوع من الشك هم بنو إسرائيل، وكذلك المشركون المعاندون المجادلون. إننا نخطئ خطأً فادحاً حين نضع كل الشكاكين في سلة واحدة، ونعامل الجميع بغير ما عاملهم الله ورسوله ﷺ من التعليم والحجة والعلاج لنفوسهم وعقولهم.

ثقافة الشرق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سعيدالعارف الضبع
المراقب العام للمنتدي



عدد المساهمات : 17528
العمر : 37
الموقع : الرياض

نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: نظرية الشك فى الفكر الانسانى    نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Icon_minitimeالسبت مايو 05, 2012 11:00 pm

الشك عند الغزالي
إذاكان التفكير الفلسفي تفكيرا نقديا فهو كذلك لأنه يتخذ من الشك وسيلة لمحاربة الأوهام وأداة البحث عن الحقيقة ففي نظر الفلاسفة لاشيئ بديهي بذاته بل ينبغي وضع كل الأمور موضع الشك فماهو الشك ؟وماخصائصه ؟ومامراحله ؟وهل يكون الشك منهجيا ام مذهبيا ؟وماضرورته للمعرفة ؟ فهل هو بدايتها ام نهايتها ؟ الشك هو التردد والحيرة أو التعجب وتعليق الحكم وفي الاصطلاح عند الفلاسفة الشك هو «تأرجح العقل بين أمرين لايمكن إثبات احدهما بدليل » وقديكون الشك شكا تاما ويسمي الشك المذهبي أوشكا نسبيا ناقصاويسمي الشك المنهجي وتخلوا الفلسفة الإسلامية من الضرب الأول من ضروب الشك ذلك أن الشك المذهبي يهدم المعرفة ويهدر القيم وقد اختص به من فلاسفة اليونان الأكاديميون الجدد أتباع بيرون ففي نظر هؤلاء المعرفة غير ممكنة أوعلي الأقل لادليل لاعلي أنها ممكنة ولا علي أنها غير ممكنة لذلك يجب تعليق الحكم واتخاذ اللاادرية موقفا ويعاني هذا الاتجاه الريبي من الوقوع في التناقض لان معرفة ان المعرفة غير ممكنة فلا ينبغي أن نعرف حتي أن المعرفة غير ممكنة . أماالضرب الثاني من الشك او الشك المنهجي فهو شك تعليمي لأنه شك من اجل اليقين لا من اجل الشك كماهو الحال عند اتباع بيرون .وقد تأسس الشك المنهجي علي يد كل من الغزالي وديكارت وإذاكان ديكارت قد أراد أن يشك فالشك عند الغزالي وليد ضرورة فقدعاش الغزالي في بيئة كثرت فيها المذاهب والفرق وتباينت فيها المسالك والطرق مع ايمانه بأن الحقيقة واحدة كما جاء في نص الحديث «ستتفرق أمتي إلي ثلاثة وسبعين فرقة الناجية منها واحدة» وكل فرقة تدعي أنها الفرقة الناجية «وَكُلّ ِحْزبِِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَِرِحُونَ»ولذلك راى الغزالي وجوب الشك في كل المعتقدات للتمييز بين المحق والمبطل والمتسنن والمبتدع ذلك أن «من لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر بقي في العمي الضلال » ومعيار الغزالي في الشك كمعيار ديكارت هو الوضوح يقول في المنقذ «والعلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم إنكشافا لايبقي معه ريب لايقارنه إمكان الغلط والوهم» مثال ذلك العشرة أكثر من الثلاثة وغيره مما لوتحدي ببطلانه من يغلب الحجر ذهبا والعصا ثعبان لم يورث فعله إلاتعجبا في كيفية قدرته علي ذلك اما الشك فيما نعلمه فلا.وينظر الغزالي إلي الشك بوصفه وسيلة لتحريرالفكر من الجمود والانغلاق والتحجر والتقليد. ولعل أولي المعارف المستوجبة للشك المعرفة الفطرية مولودة معنا والتي دل عليها الحديث النبوي «كل مولود يولد علي الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أويمجسانه»والفطرة لدي الفقهاء هي الاسلام أوالهداية لكن سرعان ما تزول المعرفة الفطرية علي اثر التربية والتاهيل الاجتماعي والتشريط الثقافي إذ يلاحظ الغزالي أن صبيان النصاري لايكون لهم نشوء إلي علي التنصر وكذلك صبيان ينشؤون علي التهود وهكذابالتلقين والسماع أوالتقليد تحل المعرفة الحسية محل المعرفةالفطريةوينظر الغزالي الي أن صبيان النصاري لايكون لهم نشوء إلي علي التنصر وكذلك صبيان ينشؤون علي التهود وهكذا بالتلقين والسماع أوالتقليد تحل المعرفة الحسية محل المعرفة الفطرية وينظر الغزالي هل يستطيع أن يشكك نفسه في الحسيات والضروريات العقلية التي من الأوليات فتبين له أن المحسوسات أقواها حاسة البصر التي تخدعنا أكثر من مرة إذ ترينا السراب ماء والظل ساكنا نعرف بالتجربة أنه يتحرك والشمس علي مقدار دينار بينما الأدلة الهندسية تدل علي أنها أكبر من الارض في المقدار هذا وأمثاله أمثاله من خداع الحواس فإذاخدعنا الحواس في هذه الامور فلعلها تخدعنا في امور اخري ولذا لايمكن أن نثق في المعرفة الحسية وقد لاتكون المعرفة العقلية أكثر يقينا من المعرفة الحسية يقول الغزالي «قالت لي الحواس بم تأمن أن تكون معرفتك بالمحسوسات كمعرفتك بالمعقولات وقد كنت واثقا بي إلي أن جاء حاكم العقل فكذبني ولولا حاكم العقل لكنت تستمر علي تصديقي فلعل وراء حاكم العقل حاكم آخر إذا تجلي كذب العقل في حكمه كما تجلي حاكم العقل فكذب الحس في حكمه وعدم تجلي ذلك الحاكم لايدل علي استحالته»ولتنفيذ المعرفة العقلية يلجؤالغزالي إلي حجة المنام التي أستوحاها من حديث نبوي يقول «الناس نيام إذاماتوا انتبهوا »وفي ذلك يبدوا أن المعرفة الصوفية تقابل المعرفةالعقيلة مقابلة اليقظة للمنام والاخرة للدنيا والمعرفة الصوفية في نظر الغزالي معرفة وجدانية حدسية لايرقي إليها الشك فهي حصيلة الكشف الذي عرفه الغزالي بأنه«نوريقذفه الله في القلب وهو مفتاح اكثر العلوم » إنه معرفة مباشرة واتصال بدون واسطة أو مراحل انتقالية بين الروح الانسانية والروح الا لهيةومن أنكر هذا الكشف «فقدضيق رحمة الله تعالي الواسعة»ويلخص الغزالي مراحل التجربة الصوفية في الخطوات التالية :التخلـــــــــــي ،التحلــــــــــــي ،التجــــــــــلي ذلك أن النفس إذا تخلت عن الشهوات وتحلت بالعبادة تجلت لها الذات الالهية ولايمكن التعبير عن هذه التجربة الوجدانية باللغة العادية يقول الغزالي «نحن أرباب الأحوال ولا أرباب الأقول »وقد تواصل هذا النمط من الشك المنهجي فيما بعد مع ديكارت فإذاكان الغزالي قد عثرعلي اليقين في المعرفة الصوفيةفقدعثر عليه ديكارت في المعرفةالعقلية . ومن الملاحظ أن كل فلسفة مهما كان الاتجاه الذي تمثله لاتكون جديرة بأن تسمي فلسفة إلا إذا اتسمت بالطابع النقدي والروحي الفلسفي ممثلا في الشك المنهجي الذي غدا اليوم ضروريا حتي بالنسبة للعلوم فهل يمكن القول يعدئذ أن الشك في كل شئ والوثوق في كل شئ كلاهما تطرف ؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سعيدالعارف الضبع
المراقب العام للمنتدي



عدد المساهمات : 17528
العمر : 37
الموقع : الرياض

نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: نظرية الشك فى الفكر الانسانى    نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Icon_minitimeالسبت مايو 05, 2012 11:02 pm

الشك المنهجي من الإمام الغزالي إلى ديكارت - عزت السيد أحمد

إن التعريف التقليدي للفلسفة على أنها حب الحكمة ربما يصيب فعلاً ماهية الفلسفة، شريطة أن يفهم هذا الحب فهماً صحيحاً، فيكون حباً فاعلاً ومنفعلاً بآن معاً، والفاعلية هنا شرط لازب، فمن أحب الشيء طلبه، ومن طلب الشيء سعى له، وإلا بطُل الحب، وفلَّت الوشائج بين المحب والمحبوب، وبالتالي لم يعد ثمة علاقة يمكن التحدث عنها.‏

إذن فحب الحكمة يقتضي طلبها والسعي للحصول عليها، ولذلك وجب علينا هنا أن نتساءل: ما الحكمة؟‏

لقد درجت العامة على استخدام الحكمة بأكثر من معنى، فهي تقترن عندهم بالمثل (بفتح الميم والثاء) وبهذا المعنى نجد أكثر من كتاب يحمل عنوان "جامع أو مجمع الحكم والأمثال"، كما أنها صنو العلة الغائية وفي ذلك يقولون: "ما الحكمة من كذا؟"، وهي كذلك قرينة العقل السديد، وخير شاهد على ذلك ما نظمه أحدهم قائلاً:‏

إذا كنت في حاجة مرسلاً فأرسل حكيماً ولا توصه‏

وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيباً ولا تعصه(1)‏

وثمة دلالات أخرى كثيرة نستطيع أن نقول إنها كلها ذات صلة عميقة بالحكمة، في المدلول الشامل، ولا عجب في ذلك، إذ إننا نعني بها الفلسفة، وكأننا نعود إلى ما انطلقنا منه، وقد عرف (أبو البقاء الكفوي 1028-1094ه) الحكمة قائلاً: "هي العدل والعلم والحكم والنبوة والقرآن والإنجيل، ووضع الشيء في موضعه، وصواب الأمر وسداده، وأفعال الله كذلك، لأنه يتصرف بمقتضى الملك، فيفعل ما يشاء، وافق غرض العباد أم لا.‏

وفي عرف العلماء: هي استعمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال قدر طاقتها"(2).‏

والحقيقة أن كل تعريفات الفلسفة إنما تدور في فلك هذا المعنى، ولا تكاد تعدوه إذا ما اعتبرنا المطلب الأسمى، وهو الوصول إلى الحقيقة، هو الغاية القصوى من حب الحكمة وطلبها، تستوي في ذلك كل التعريفات حتى ما تعارض منها، ويتبدى لنا ذلك إذا ما لاحظنا أن كل الفلسفات تستند إلى أساس منهجي واحد، وإن تشعبت أغراضه أو تعارضت، ذلك الأساس هو الشك، فقوام الفلسفة في الحقيقة هو التساؤل، والتساؤل ضرب من الشك الأولي، وإن لم يبد ذلك جلياً في كل تعاريف الفلسفة، إلا أنه حقيقة متضمنة في التعريف والمنهج، وما من فيلسوف إلا وكان الشك نقطة البداية التي انطلق منها، سيان وعى ذلك أم لم يعه.‏

ولكن، هل كل ضروب الشك سواء؟ إن تتبع آثار الفلاسفة يكشف لنا عن ضربين أساسيين في الشك، أولهما شك مضمر، وثانيهما شك جلي، فأما الشك المضمر فهو الذي وجدناه عند الفلاسفة قاطبة، بالضرورة لا بالاختيار، حتى الذين انطلقوا من (مسلمات ما) إنما ذلك لتشكيكهم المضمر بغيرها...‏

وأما الشك الجلي، فهو الذي أعلن منهجاً ينطلق منه هذا المذهب أو ذاك، وهو نوعان، أولهما هدام، وثانيهما بناء، وإنما كان الأول هداماً لأنه مطلق لا غاية له إلا الشك، أي الشك لمجرد الشك، وهنا ينتفي أي إمكان لأية معرفة، صحيحة كانت أو خاطئة، وفي المغالطين "السفسطائيين" نموذج على ذلك "فقد وضع (جورجياس 480-375 ق. م) كتاباً عنوانه: -الطبيعة أو اللاوجود- وحاول فيه أن يقيم الدليل على هذه القضايا الثلاث: -لا شيء موجود- إن وجد شيء فلا يمكن أن يعرف- وإن أمكن أن يعرف فلا يمكن إيصاله إلى الغير-"(3).‏

"وبلغ الشك أشده في النزعة اللا أدرية التي تزعمها (بيرون 365-275ق. م) منكراً العلم واليقين، فلا يوجد حقيقة، وإنما هناك وجهات نظر يمكن إثباتها ونفيها بآن معاً، وبالتالي فلا شيء في نفسه حق، ولا شيء في ذاته خير أو شر، وإنما هو خير في رأيي أو رأيك، ومن ثم يجب أن نمتنع عن إصدار الأحكام القاطعة"(4) ويبدو جلياً أن هذا النوع من الشك لا يستقر على حال البتة، ولا يصل إلى حقيقة أبداً، لأن أصحابه يؤثرون التأرجح بين الشكوك على الركون إلى أي حكم.‏

وأما النوع الثاني من الشك الجلي، وهو الشك البناء، أو ما يسمى عادة بالشك المنهجي، فقد سمي بناء لأنه لا يتوقف عند الشك وحسب، وإنما أوجد أصلاً ليكون مرتكزاً نصل من خلاله إلى اليقين، أي أنه إجراء مرحلي نهتدي من خلاله إلى الحقيقة، والحقيقة اليقينية لا النسبية، وقد كان (الإمام الغزالي 450-505ه/ 1059-1111م) من أوائل من أرسوا قواعد هذا الشك، وتبعه الفيلسوف الفرنسي (رينه ديكارت 1596-1950م) بنفس الخطا، ليكون لكل منهما في التاريخ شأنه.‏

فالإمام (الغزالي): "استحوذ تأثيره الساحر على عقول الطبقات المسلمة كافة، ولا سيما الطبقات الوسطى، ولا يزال هذا التأثير مستمراً إلى اليوم يرتدي حللاً مختلفة، ويتجدد في صور متباينة، وكأنه يلازم حياة (الرأي العام) المسلم"(5) ولعل الإمام (الغزالي) –بشهادة معظم النقاد والمفكرين- الوحيد من بين فلاسفة المسلمين، الذي انتهج أسلوباً فلسفياً مميزاً مستقلاً عن أسلوب المدرسة اليونانية، مفتتحاً بذلك أسلوباً فلسفياً جديداً.‏

أما (ديكارت) فأصبح أبا الفلسفة الحديثة ورائدها العقلي"(6) ويقول (هيغل 1770-1830) في ذلك: "رينه ديكارت هو المحرك الأول للفلسفة الحديثة من حيث أنها تقيم الفكر أصلاً من أصولها... وليس من إسراف البتة أن يتحدث الناس بإطناب عن أثر ذلك الرجل في أهل عصره وفي العصور الجديدة: إنه بطل من الأبطال، لقد أعاد النظر في الأشياء من البداية"(7).‏

وسنحاول الآن أن نستقصي أوجه الشبه بين هذين الفيلسوفين فيما يتعلق خصوصاً بمسألة الشك الذي أسميناه بناء، أو هو ما يسمى عادة بالشك المنهجي، وبادئ ذي بدء نتساءل: لماذا لجأ هذان الفيلسوفان إلى هذا النوع من الشك تحديداً من جهة، وما دواعيه من جهة ثانية؟‏

الحقيقة أن الفيلسوفين كليهما لم يبتغيا من الشك إلا اليقين، فكان الشك أداة في منهج لا منهجاً، وسيتضح هذا في سياق الكلام، والذي دعاهما إلى ذلك يكاد يكون واحداً، فالإمام (الغزالي) يقول: "إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب، على كثرة الفرق وتباين الطرق- بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي... وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا، إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله () يقول –كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرناه ويمجسانه- فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات وأوائلها تلقينات، وفي تميز الحق منها عن الباطل اختلافات"(Cool.‏

أما (ديكارت) فيقول: "ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحة، وأن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذا حالها من الزعزعة والاضطراب، لا يمكن أن يكون إلا شيئاً مشكوكاً فيه جداً.. فحكمت حينئذ بأنه لا بد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد لي من بناء جديد من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئاً وطيداً مستقراً"(9).‏

إذن. لقد وجد الفيلسوفان نفسيهما أمام مذاهب وفرق مختلفة، مضطربة ومتضاربة، كل يتشيع لطائفة من الآراء والاعتقادات ويدعي أنها الأصح، وبالبداهة نتبين أن ذلك غير ممكن، ولذلك كان لا بد من التشكيك في هذه العقائد الموروثة، الواحدة تلو الأخرى، وبالفعل شرع الفيلسوفان باستقصاء هذه العقائد وسبر معانيها واستجلاء حقائقها، فأما (الغزالي) فيقول: "ولم أزل في عنفوان شبابي، منذ راهقت البلوغ قبل العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن كل عقيدة وفرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومستسن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صوفته -تصوفه- ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته"(10).‏

أما (ديكارت) فقد انتظر حلول الظروف الملائمة للقيام بهذه المهمة، ونظراً لأن الوقت ربما لا يسعفه –وهذا الأكيد- في معالجة كل الآراء والعقائد الموروثة، فقد اكتفى بأن يجد ولو سبباً واحداً للشك حتى يرفض هذا الأمر أو الرأي، يقول في ذلك: "واليوم وقد واتتني ظروف ملائمة لهذا الغرض، إذ خلصت فكري من كافة ضروب المشاغل، وأخليت نفسي بحمد الله من هزات الانفعالات، وظفرت لنفسي براحة مؤكدة، في عزلة مطمئنة، سوف أفرغ جداً وفي حرية لتقويض كافة آرائي القديمة على وجه العموم، وليس يلزم لهذا أن أبين أنها كلها زائفة، فهذا أمر قد لا ننتهي منه أبداً... فيكفي لرفضها جميعاً أن يتيسر وأن أجد في كل واحد منها سبباً للشك"(11).‏

ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الإمام (الغزالي) قد وقف على علوم زمانه وآراء أهله، وأن (ديكارت) لم يتأت له ذلك، وإنما الفيلسوفان كلاهما عمدا إلى أن يجدا من الأسباب أو الشكوك ما يكفي لرفض هذا الأمر أو ذاك، وكلامهما خير دليل على ذلك، كما أن الخطوات التالية تكشف بجلاء عما ذهبنا إليه.‏

أجال الفيلسوفان الطرف حواليهما يبحثان عن الموضوعات التي تنطوي تحت رحاب الشك، والأسس التي تقوم عليها تلك الآراء والمعتقدات والعلوم... فوجدا خير بداية في موضوعات الحواس، فهي الأقرب للشك، والأكثر طواعية له، يقول الإمام (الغزالي) في ذلك: "الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من أحكامها أولاً لأتيقن أثقتي بالمحسوسات وأماني من الغلط في الضروريات من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليدات ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غائلة له؟‏

فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة بعد ساعة تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدرج... ثم تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار الدينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار، وهذا وأمثاله من المحسوسات، يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه؛ تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته، فقلت: بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً"(12).‏

والأمر عينه نجده عند (ديكارت) فقد حسب أول الأمر أن مواضيع الحس موضع الثقة والصدق، ثم لم يلبث بعد المعاينة والتجريب أن تبين خداعها وكذبها، وها هو ذا يقول: "كل ما تلقيته حتى اليوم وآمنت بأنه من أصدق الأشياء وأوثقها، قد اكتسبته من الحواس أو بواسطة الحواس، غير أني جربت هذه الحواس في بعض الأحيان فوجدتها خداعة، ومن الحكمة ألا نطمئن كل الاطمئنان إلى من خدعونا ولو مرة واحدة"(13).‏

ولكن إن خدعتنا الحواس في بعض الحالات والظواهر، أفيعني هذا أنها خداعة دائماً، لا ينبغي الوثوق بها أبداً؟ هذا التساؤل أثاره (ديكارت) وتابع قائلاً: "قد نقع على أشياء كثيرة أخرى لا نستطيع أن نشك فيها شكاً يقبله العقل، وإن كنا نعرفها بطريق الحواس، مثال ذلك: أني ها هنا جالس قرب النار، لابس عباءة المنزل، وهذه الورقة بين يدي، وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل، وكيف أستطيع أن أنكر أن هاتين اليدين يداي، وهذا الجسم جسمي؟"(14) فكيف السبيل إذاً للخروج من هذا الإشكال، ومقتضى الحال يفترض طى المحسوسات بين ثنايا الشك، على الأقل ريثما نصل إلى اليقين الذي نستند إليه ومنه ننطلق؟.‏

الحقيقة ثمة مخرج يستوعب هذا الإشكال، وما قد ينشأ من إشكالات أخرى بهذا الخصوص، وذلك باعتبار حالة النوم وما يتراءى للنائم في منامه، فقال (ديكارت): "ينبغي علي هنا أن أعتبر أني إنسان، وأن من عادتي لذلك أن أنام، وأني أرى في أحلامي عين الأشياء التي يتخيلها أولئك المخبولون (الذين اختلت أدمغتهم) في يقظتهم؛ بل قد أرى أحياناً أشياء أبعد عن الواقع مما يتخيلون، كم مرة وقع لي أن أرى في المنام أني في هذا المكان، وأني لابس ثيابي، وأني قرب النار، مع أني أكون في سريري متجرداً من ثيابي! يبدو لي الآن أني لا أنظر إلى هذه الورقة بعينين نائمتين، وأن هذا الرأس الذي أهزه ليس ناعساً.... ولكن عندما أطيل التفكير في الأمر، أتذكر أني كثيراً ما انخدعت في النوم بأشباه هذه الرؤى، وعندما أقف عند هذا الخاطر أرى بغاية الجلاء أنه ليس هناك أمارات يقينة نستطيع بها أن نميز بين اليقظة والنوم تمييزاً دقيقاً، فيساورني الذهول، وأن ذهولي لعظيم، حتى يكاد يصل إلى إقناعي بأني نائم"(15).‏

ولكن الإمام (الغزالي) لم يفته هذا المخرج، وكان الأسبق بردح من الزمن طويل بطرح نفس الخطوة هذه التي قال بها (ديكارت)، فخرج الآخر من إشكاله بالمنام، يقول الإمام (الغزالي) في ذلك: "فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولا شك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها. لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالنسبة إليها، فإذا أوردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها"(16).‏

إذن فالفيلسوفان كلاهما لم يجدا من القرائن اليقينية ما يجعلهما يميزان بين رؤية اليقظة ورؤيا المنام، ولذلك كان الخروج من الإشكال بالمنام صحيحاً.‏

وجلي أن الإمام (الغزالي) لم يقصر ملابسة المنام على الإدراكات الحسية وحسب، بل جعلها تمتد لتشمل المدركات العقلية أيضاً، فالمنام تخيل، والتخيل قوامه الصور الحسية التي تختزنها الذاكرة.‏

هذا حال المحسوسات، فما هو مصير المعقولات، أو لنقل الضرورات العقلية؟ فهل نستطيع أن نشكك في أن الكل أكبر من الجزء، أو أن حاصل جمع الاثنين إلى الثلاثة لا يساوي الخمسة؟‏

لا (شك) أن هذا موقف حرج فيما لو حاول الفيلسوفان اقتحام هذا الحاجز المنيع والتشكيك فيه... هذا ما يبدو للوهلة الأولى، لأن الفيلسوفين فعلاً لم يتخاذلا عن الخوض في لجة هذا البحر العميق، فاعترف كلاهما بادئ ذي بدء بحراجة الموقف وصعوبته، ذلك بأن الضرورات العقلية أمور لا تقبل مدافعة الشك ومحاجته، فيقول الإمام (الغزالي): "فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات" كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً، موجوداً معدوماً واجباً محالاً"(17).‏

ويقول (ديكارت) في ذلك: "في حين أن الحساب والهندسة وما شاكلهما من العلوم التي لا تنظر إلا في أمور بسيطة جداً وعامة جداً، دون اهتمام كثير بالوقوف على مبلغ تحقق هذه الأمور في الخارج أو عدم تحققها، إنما تشتمل على شيء يقيني لا سبيل إلى الشك فيه: فسواء كنت متيقظاً أو نائماً هناك حقيقة ثابتة وهي أن مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبداً، وليس يبدو في الإمكان أن حقائق بلغت هذه المرتبة من الوضوح والجلاء يصح أن تكون موضع شبهة خطأ أو انعدام يقين"(18).‏

ثم لم يلبث الفيلسوفان أن شككا في العقليات معتمدين على نفس الدليل أيضاً -وهذا ما لم ينتبه أو يشر إليه أحد فيما علمت- بل إن (ديكارت) وإن لم ينف أن يكون قد سبقه أحد إلى ذلك، فإنه قال، إنه: أول من قال بهذا الدليل، فما هو هذا الدليل الذي أمكن الفيلسوفين النيل من العقليات والتشكيك فيها؟‏

الحقيقة إننا وإن أطلنا البحث لن نجد إلا مخرجاً واحداً أو دليلاً واحداً يفتح أمامنا إمكانية التشكيك في الضرورات العقلية، ذلك الدليل هو أن يقف وراء حاكم العقل حاكم آخر، يستطيع إلزامه في كل مرة أن يتعسف في أحكامه، مخيلاً إليه أنه على صواب، وهنا يمكن رفض الضرورات العقلية واعتبارها ضروباً من الأوهام أو الأحكام التي لا نستطيع أن نقف على مدى صحتها، وانطلاقاً من ذلك قال الإمام (الغزالي) بالمختصر المفيد: "لعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الأمر لا يدل على استحالته"(19).‏

أما (ديكارت) فيقول في ذلك: "ومع ذلك فإن معتقداً قد رسخ في ذهني منذ زمن طويل، وهو أن هناك إلهاً قادراً على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود، فما يدريني لعله قد قضى بأن لا يكون هناك أرض ولا سماء ولا جسم ممتد ولا شكل ولا مقدار ولا مكان، ودبَّر مع ذلك كله أن أحس هذه الأشياء جميعاً، وأن تبدو لي موجودة على نحو ما أراها؟ بل لما كنت أرى أحياناً أن أناساً يغلطون في الأمور التي يحسبون أنهم أعلم الناس بها، فما يدريني لعله قد أراد أن أغلط أنا أيضاً كلما جمعت اثنين إلى ثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما"(20).‏

ولكن الله أسمى من أن يضلني "وإذن فسأفترض، لا أن الله –وهو أرحم الراحمين وهو المصدر الأعلى للحقيقة- بل إن شيطاناً خبيثاً ذا مكر وبأس شديدين قد استعمل ما أوتي من مهارة لإضلالي، وسأفترض أن السماء والهواء... والأشياء الخارجية لا تعدو أن تكون أوهاماً وخيالات قد نصبها ذلك الشيطان فخاخاً لاقتناص سذاجتي في التصديق، وسأعد نفسي خلواً من اليدين والعينين واللحم والدم، وخلواً من الحواس، وأن الوهم هو الذي يخيل لي أني مالك لهذه الأشياء كلها وسأصر على التشبث بهذا الخاطر"(21).‏

إذن فالحاكم الذي يقف وراء إدراك العقل الذي قال به الإمام (الغزالي) دون أن يسميه، افترض (ديكارت) أنه شيطان ماكر خبيث بمقدوره تضليلي وتخطئتي دائماً في أحكامي على حد تعبيره.‏

والفرق الذي نجده هنا يكمن في موقف كل منهما من العقل، ففي حين وسم (الغزالي) موقفه باحترام العقل وتقديره، نجد أن (ديكارت) الذي أثر عنه إيلاؤه العقل كل الأهمية حتى سمي بفيلسوف العقلانية، قد غدا موقفه قلقاً حين جعل هذا العقل تحت رحمة شيطان ماكر خبيث، عرضة بتحكمه وتلاعبه.‏

ولكن حق لنا أن نتساءل الآن بعد أن أتى شك الفيلسوفين على كل شيء؛ فلم يبقيا على محسوس ولا على معقول؛ وهما الآن على أبواب اليقين، ما هو اليقين الذي لا يقبل الشك بطبيعة؟ وهنا أيضاً يلتقي الفيلسوفان، فحدد الإمام (الغزالي) ذلك قائلاً: "فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً، لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً، فإني إذا علمت أن العشرة أكبر من الثلاثة، فلو قال قائل: لا، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، أما الشك فيما علمته فلا"(22).‏

وعلى نفس الوتيرة سار (ديكارت) منادياً بنفس المعيار، جاعلاً إياه القاعدة الأولى من قواعد منهجه. فيقول: يجب "أن لا أتلقى على الإطلاق شيئاً على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أعنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة، وأن لا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز لا يكون لدي معهما أي مجال لوضعه موضع الشك"(23).‏

وقد بين (ديكارت) في كتابه "مبادئ الفلسفة" مراده من الأفكار الواضحة والمتميزة، فهو "يطلق على الفكرة الحاضرة المتجلية لذهن متيقظ- الفكرة الواضحة- وعلى الفكرة الواضحة والمنفصلة معاً عن سائر الأشياء الأخرى، بحيث أنها لا تحوي في ذاتها إلا على ما هو واضح- الفكرة المتميزة"(24).‏

وهنا، في نهاية المطاف، حيث الانتقال من الشك إلى اليقين يفترق الفيلسوفان في الطريق ليلتقيا في المبدأ والنتيجة، فاتخذ كل منهما للخروج من الشك سبيلاً، فأما الإمام (الغزالي) فيقول: "ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيَّق رحمة الله تعالى الواسعة"(25).‏

أما (ديكارت) فجعل الخروج من الشك إلى اليقين قائماً في الآنية المفكرة، هذا الأمر الذي لم تستطع رحاب الشك أن تطويه، فما دام شاكاً، فهو يقيناً موجود، وهو يقول في ذلك: "ولكنني سرعان ما لاحظت وأنا أحاول على هذا المنوال أن أعتقد بطلان كل شيء، أنه يلزمني ضرورة، أنا صاحب هذا الاعتقاد، أن أكون شيئاً من الأشياء، ولما رأيت هذه الحقيقة، أنا أفكر، إذن أنا موجود، هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين. مهما يكن فيها من شطط حكمت بأني أستطيع مطمئناً أن أتخذها مبدأ أول للفلسفة التي كنت أبحث عنها"(26).‏

***‏

وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا المبدأ الذي اتخذه (ديكارت) مبدأ أولاً للفلسفة.‏

والذي سماه (الكوجيتو) أو (أنا أفكر، إذن أنا موجود) إنما هو بالأصل للشيخ الرئيس (ابن سينا 370-428ه/ 980-1037م)، هذه الحقيقة نلمسها في نص (لابن سينا) من كتاب الشفاء، قسم الطبيعيات، الفن السادس، اشتهر باسم (الرجل الطائر)، وهذا النص نسوقه كما هو(27):‏

"لو خلق إنسان دفعة واحدة، وخلق متباين الأطراف، ولم يبصر أطرافه واتفق له أن لم يمسها ولا تماست ولم يسمع صوتاً، جهل وجود جميع أعضائه وعلم وجود آنيته شيئاً واحداً مع جهل جميع ذلك، وليس المجهول بعينه هو المعلوم، وليست هذه الأعضاء لنا في الحقيقة إلا كالثياب التي صارت لدوام لزومها إيانا كأجزاء منا عندنا، وإذا تخيلنا أنفسنا لم نتخيلها عراة بل تخيلناها ذوات أجسام كاسية، والسبب فيه دوام الملازمة، إلا أنا قد اعتدنا في الثياب من التجريد والطرح ما لم نعتد في الأعضاء، وكان ظننا الأعضاء أجزاء منا أكد من ظننا الثياب أجزاء منا وأما إن لم يكن ذلك جملة البدن بل كان عضواً مخصوصاً فيكون ذلك العضو هو الشيء الذي أعتقده أنه لذاته أنا أو يكون معنى ما أعتقده أنه أنا ليس هو ذلك العضو وإن كان لا بد له من العضو، فإن كان ذات ذلك العضو وهو كونه قلباً أو دماغاً أو شيئاً آخر أو عدة أعضاء بهذه الصفة هويتها أو هوية مجموعها هو الشيء الذي أشعرته أنه أنا فيجب أن يكون شعوري بأنا هو شعوري بذلك الشيء، فإن الشيء لا يجوز من جهة واحدة أن يكون مشعوراً به غير مشعور به، ثم ليس الأمر كذلك فإني إنما أعرف أن لي قلباً ودماغاً بالإحساس والسماع والتجارب، لا لأني أعرف أني أنا فيكون إذاً ليس ذلك العضو لنفسه الشيء الذي أشعرته أنه أنا بالذات، بل يكون بالعرض أنا، ويكون المقصود بما أعرفه مني أني أنا الذي أعنيه في قولي أنا أحسست وعقلت وفعلت، وجمعت هذه الأوصاف شيئاً آخر هو الذي أسميه أنا، فإن قال هذا القائل: إنك أيضاً لا تعرفه أنه نفس فأقول: إني وإنما أعرفه على هذا المعنى الذي أسميه النفس، وربما لا اعرف تسميته باسم النفس"(28).‏

وما دامت الحالة كذلك "فإني أكون أنا وإن لم أعرف أن لي يداً ورجلاً أو عضواً من هذه الأعضاء على ما سلف"(29) وكأننا نقف بذلك أمام الكوجيتو الديكارتي ولكن في لبوس آخر لا يختلف عنه إلا قليلاً من حيث الصياغة اللغوية، وبستة قرون ونيف من السبق الزماني.‏

ولعل أول من أكد هذه الصلة الوثيقة بين (ابن سينا) و (ديكارت) هو العالم الإيطالي (فورلاني) في مقال له بعنوان "ابن سينا ومقولة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود).‏

نشره عام 1927 في مجلة (Islamica)، معتمداً على النص ذاته.‏

"وليس (فورلاني) متفرداً بالقول بهذه القربى، فهذا محقق كتاب النفس من الشفاء (الفن السادس- قسم الطبيعيات) – (يان باكوش) يعقب في ملاحظة على ترجمته الفرنسية للنص المذكور(30) بقوله:‏

-إن هذا قول ديكارت المشهور، أنا أفكر إذن أنا موجود، ويتابع: فإن الصورة التي يقدمها ابن سينا تبرهن على أن نفس الإنسان كاملة، ولكن محجوبة هي التي تظهر دون وساطة الجسد، إنه موجود وإنه يفكر.‏

ومع أن الباحثين لا يذهبان حتى –إلى- التأكيد بأن ديكارت قد اطلع على نصوص ابن سينا مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، إلا أن فورلاني يميل إلى مثل هذا التخمين حين يشير إلى سعة إطلاع ديكارت على النصوص اللاتينية التي كتبت في العصور الوسطى، وقد كان كتاب ابن سينا قد ترجم إلى اللاتينية"(31).‏

***‏

إذن لقد وصل الفيلسوفان هنا –الغزالي وديكارت- إلى بر الأمان، أمسكا باليقين دون أن يخلصا من الشك، فقد اشترطا دون ذلك شروطاً ومعايير مبنية على بداهة المعاني وانكشافها لذهن متيقظ صاف، لا يدافعها أي شك ولا يخامرها أي غموض، وعلى العموم "سواء أكان رجوع النفس إلى اليقين بمعرفة خارجية، أم بنقد داخلي ذاتي فإن أمراً واحداً لا ريب فيه، وهو أن مفتاح المعرفة في كلا الحالين هو الحدس"(32).‏

هذا ما عنيناه من أن الفيلسوفين افترقا في طريق الخروج من الشك والتقيا في المبدأ والنتيجة، فالالتقاء كان في أن كلا الفيلسوفين جعل مفتاح المعرفة في الحدس، واليقين هو النتيجة المطلوبة، التي توصل إليها كلاهما.‏

بل وربما كان الإمام (الغزالي) أكثر دقة وإحكاماً في تحديد معنى اليقين ورسم معالمه التي تسوغ لنا التشبث به رغم كل ما قد يعترضنا من مؤثرات خارجية، أو ربما داخلية، ونظراً لما للموضوع من أهمية جد بالغة فقد كرس كتاباً على الأقل هو "معيار العلم" للاستفاضة في بيان وبسط معاني اليقين وكيفية تأسيس العلم عليه.‏

على أن ذلك مرتهن بوجود ضامن لحقيقة وصحة الأفكار التي نتناولها، والحقيقة أن الإمام (الغزالي) عندما رد أساس المعرفة إلى الإلهام لا إلى العقل كان قد سبق (ديكارت) بالقول بأن الله يضمن لنا الحقيقة، يضمن أن معارفنا حقيقية غير زائفة، "إذ لولا الثقة في أن الله لا يمنحنا طبيعة مزيفة، لما أمكننا التعويل على العقل في اكتساب المعرفة"(33).‏

كما كان الأكثر إفصاحاً وإيضاحاً لجوانب هذه المسألة، سالخاً أبعاضاً من كتبه لتبيانها ضرورة وأبعاداً ودقة، "كمعيار العلم والقسطاس المستقيم وتهافت الفلاسفة.."‏

يقول: "فإن أتيتك بميزان في المعرفة... واضعه هو الله سبحانه وتعالى ومعلمه جبريل... ومستعمله الخليل ومحمد وسائر النبيين عليهم السلام جميعاً وقد شهد الله تعالى لهم في ذلك بالصدق"(34) وبالتالي فإن كل ما نتوصل إليه من معارف عن طريق العقل، عن طريق الاستدلال والقياس والمحاكمات العقلية عموماً هي معارف حقيقية بضمان الله لها.‏

"وكما تشابه الإمام (الغزالي) و (ديكارت) في أمر المعرفة، فقد تشابها أيضاً في أمر آخر هو موقف العقل من الوحي، أما (ديكارت) فقد روي عنه أنه نحى حقائق الوحي عن مجال العقل لأنها –في رأيه- لا تدرك إلا بمدد من السماء، خارق للعادة، فارتد بهذا إلى النزعة اللا عقلية في مجال الدين، أما الإمام (الغزالي) فقد جعل الغرض الأول والأخير من تأليف كتاب التهافت هو إثبات أن العقل قاصر عن إدراك حقائق الأمور الإلهية، وأنه لا يمكن التعويل عليه بشأنها –ودعا فيما يتصل بهذه الأمور- إلى مصدر آخر هو خبر النبي المعصوم"(35).‏

أما وقد فرغنا من عرض الخطوات والمعالم الرئيسية للشك المنهجي عند الإمام (الغزالي) و (رينه ديكارت) نعود للتساؤل الذي طرحناه مسبقاً عن دواعي الشك عند هذين الفيلسوفين، ولن أقول شيئاً هنا، وإنما سأكتفي بإيراد جوابين لمفكرين مختلفين، كل واحد منهما تولى الإجابة عن دواعي الشك عند أحد الفيلسوفين، وقد آثرتهما دون سواهما لأنهما يمثلان في الحقيقة خلاصة الآراء والمواقف في الإجابة عن هذا التساؤل على ما بدا لي من خلال بحثي، كما أنهما يفصحان عن رأيي أنا.‏

الأول للأستاذ (سليمان دنيا) ويقول فيه: "لقد سجل (الغزالي) ظاهرة فكرية قدرها فيه وأكبره من أجلها رجال الفلسفة، لقد حاول (الغزالي) بهذه الظاهرة أن يؤسس دعائم قوية يقيم عليها بناء المعرفة سليماً قوياً:‏

1-فلقد وضع للمعرفة منهجاً قويماً.‏

2-وللعلم حداً دقيقاً يخلصه من عناصر الغموض واللبس.‏

3-وأظهر استحالة الوثوق بالعقل عن طريق العقل نفسه.‏

4-وضرب أمثلة جديرة بالاعتبار لبيان إمكان خطأ العقل في أحكامه، وأخرى لبيان إمكان خطأ الحواس.‏

5-ورد أساس المعرفة إلى الإلهام لا إلى العقل، إذ لولا الثقة في أن الله لا يمنحنا طبيعة مزيفة لما أمكننا التعويل على العقل في اكتساب المعرفة"(36).‏

أما الرأي الثاني فللأستاذ (سكرتان) في كتابه (فلسفة الحرية) ويقول فيه:‏

1-لقد أراد (ديكارت) أن يبدأ ببناء العلم من أوله، أي أن يقيمه على حقيقة أولى يقينية.‏

2-فاستنبط من هذه الحقيقة الأولى معياراً عاماً لليقين.‏

3-ثم اعتمد على هذا المعيار العام، فارتقى من الحقيقة الأولى المعلومة إلى الحقيقة الأولى بذاتها، أي المبدأ الكلي.‏

4-ثم استنبط من هذا المبدأ الكلي معياراً عالياً للحقيقة مؤيداً للمعيار الأول.‏

5-ثم استند في النهاية إلى هذا المبدأ الكلي، وإلى المعيارين السابقين فاستنبط المبادئ المباشرة للأشياء، وأعاد بناء العالم الحقيقي"(37).‏

وعلى ضوء ما سبق وعرضناه في بحثنا يتضح أن هذين الرأيين يكادان يتطابقان إذا ما نظرنا إلى مدلول كل منهما دون التوقف عند ظاهر الألفاظ –وهو أيضاً كاف- ودفعاً للشبهات مما قد يثار من تساؤل حول رأي الأستاذ (سليمان دنيا) من أنه ربما يكون قد اطلع على رأي (سكرتان) فصاغ رأيه بما يتوافق معه، فنقول: وليكن ذلك فرضاً فإن هذا الرأي لا ينأى عن الحق، فهو قد سطر الرأي نتيجة لما استنبطه من دراسة آثار الإمام (الغزالي) وغير خاف شغف (سليمان دنيا) بالإمام (الغزالي) وسعة إطلاعه بمؤلفاته الفلسفية، وهذا ما وصلنا إليه نحن فعلاً، بل ربما لا نكون مبالغين إذا قلنا أن هذا ما سيجده كل قارئ للإمام (الغزالي)، فهو شأنه شأن (ديكارت) بعدما نظر إلى تقدم العلوم وتباين الفرق واختلاف المذاهب...‏

أراد أن يوجد أساساً لتقدم العلم، وحداً دقيقاً له يخلصه من شائبة الغموض، ومنهجاً قويماً يسير على هديه، ومعياراً عاماً للحقائق التي يتوصل إليها.‏

وأخيراً نجدنا أمام تساؤل عريض يطرح نفسه بإلحاح وهو: ما حقيقة هذا التماثل- أقول تماثلاً لأنه من غير الإنصاف أن ندعوه تشابهاً، وقد تبين لنا بجلاء كيف كان ذلك –في مسألتي الشك واليقين عند الإمام (الغزالي) و (ديكارت) وما تفرع عنهما من مسائل؟!‏

هل هي الفطرة السليمة والحدس النقي كما يقول الإمام (الغزالي): "ولقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي لا باختياري وحيلتي"(38) هذه الغريزة أو الفطرة التي يلتقي الناس عندها ويتساوون بها؛ ولا سيما أن الفيلسوفين كليهما يحفزهما نفس الغرض ألا وهو الدفاع عن الدين والذود عن حياضه، فيكون هذا بمثابة دليل على ما سعينا لأجله وجهدنا في سبيله.‏

الحواشي:‏

(1)هذان البيتان من قصيدة قصيرة، اختلف النقاد –القدماء- في فهم المقصود من –الحكيم فيها- وكذلك اختلفوا في نسبتها، فقالوا لطرفة بن العبد، وقالوا لصالح عبد القدوس، وقالوا لعبد الله بن معاوية الجعفري..‏

(2)أبو البقاء الكفوي –الكليات- وزارة الثقافة دمشق –ج2- ص 222.‏

(3)أحمد أمين وزكي نجيب محمود –قصة الفلسفة اليونانية. لجنة التأليف والترجمة والنشر –القاهرة- ط7-1970- ص 67.‏

(4)انظر في ذلك: قصة الفلسفة اليونانية –مس- ص 222 وما بعدها وكذلك: يوسف كرم – تاريخ الفلسفة اليونانية- دار القلم- بيروت ص 234 وما بعدها.‏

(5)د. عادل العوا- المذاهب الفلسفية- جامعة دمشق- 1986 ص 186-187.‏

هذا مع الإشارة إلى بعض التحفظ على التقسيم الطبقي الذي أورده الدكتور عادل العوا.‏

(6)م س – ص 245.‏

(7)هيغل –دروس في تاريخ الفلسفة- "فصل عن ديكارت".‏

مأخوذ عن كتاب: ديكارت- تأليف عثمان أمين- مكتبة القاهرة الحديثة- ط5-1965-ص26.‏

(Coolأبو حامد الغزالي –المنقذ من الضلال- المكتبة الشعبية- بيروت د. ت- ص 24-25-26.‏

(9)رينه ديكارت- التأملات في الفلسفة الأولى- ترجمة عثمان أمين- مكتبة القاهرة الحديثة –ط2-1956-ص53.‏

(10)المنقذ من الضلال –ص 24-25.‏

(11)التأملات –ص 53-54.‏

(12)المنقذ- ص 27-28-29.‏

(13)التأملات – ص 54.‏

(14)م. س- ذاته.‏

(15)م. س- ص 55.‏

(16)المنقذ-ص30.‏

(17)م. س- ص 29.‏

(18)التأملات – ص 56-57.‏

(19) المنقذ –ص29-30.‏

(20)التأملات ص 57.‏

(21)م. س-ص57.‏

(22)المنقذ-ص26.‏

(23)رينه ديكارت- مقالة في الطريقة- ترجمة جميل صليبا- اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع- ط2- 1970- ص102.‏

(24)د. عادل العوا، د. غسان فينيانس- المدخل إلى الفلسفة- جامعة دمشق- 1981-ص338.‏

كذلك: مقالة في الطريقة- هامش ص 102.‏

(25)المنقذ من الضلال –ص31.‏

(26)مقالة في الطريقة- ص134.‏

(27)استفدنا في هذه المقارنة من دراسة للدكتور غانم هنا، بعنوان "علاقة الفلسفة الحديثة بمفهوم العقل عند ابن سينا –مجلة التراث العربي- دمشق- العدد 5/6-1981-ص44-45.‏

(28)ابن سينا- كتاب الشفاء- الفن السادس من الطبيعيات- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت- 1982ص-252-253.‏

(29)م. س- ص 251.‏

(30)هناك بعض الاختلاف بين النص الذي أوردناه عن طبعة بيروت والنص الذي حققه (يان باكوش) وطبعه في براغ عام 1956، ولكنه في المفردات لا المعاني، ومرجع ذلك إلى الترجمة. يمكن مراجعة نص (يان باكوش) ومقارنته مع النص الذي أوردناه، في مجلة التراث العربي (العدد 5/6) في دراسة الدكتور غانم هنا السابقة.‏

(31)مجلة التراث العربي. م. س –ص45.‏

(32)جميل صليبا- تاريخ الفلسفة العربية- دار الكتاب اللبناني 1986-ص396-397.‏

(33)أبو حامد الغزالي- تهافت الفلاسفة- تحقيق سليمان دنيا- دار المعارف- مصر- مقدمة المحقق- ص 24.‏

(34)أبو حامد الغزالي-القسطاس المستقيم- تحقيق رياض مصطفى العبد الله، دار الحكمة –دمشق/ بيروت- 1986ص31.‏

(35)مقدمة التهافت –ص 29.‏

(36)مقدمة التهافت – ص 23-24.‏

(37)مقالة في الطريقة- المقدمة- ص 20.‏

(38)المنقذ من الضلال- ص 25.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سعيدالعارف الضبع
المراقب العام للمنتدي



عدد المساهمات : 17528
العمر : 37
الموقع : الرياض

نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: نظرية الشك فى الفكر الانسانى    نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Icon_minitimeالسبت مايو 05, 2012 11:06 pm

الشك بين الغزالى وديكارت




في البداية ينبغي أن يكون واضحا ً أن الشك الذي اتبعه كل من الإمام الغزالي و ديكارت يختلف تماما ً عن الشك الإرتيابي الهدام, ذلك لأن الشك المنهجي كما يقول الدكتور محمود زقزوق لا ينكر الحقيقة كما ينكرها الشك الإرتيابي, وإنما هو شك يبحث عن الحقيقة المطلقة, ويحاول أن يجد لها أساساً مطلقاً.
وفي بداية الطريق الفلسفي يأتي الشك الفلسفي, الذي يعد وسيلة للبحث عن الحقيقة, ويختلف بذلك اختلافاً جوهرياً عن الشك الإرتيابي الذي يغلق على نفسه دائرة لا يريد الخروج منها, ولا يعترف بإمكانية هذا الخروج. فكيف بدأ كل من الغزالي وديكارت الشك؟

الغزالي : يصف حجة الإسلام في كتابه ( المنقذ من الضلال) كيف أصابه مرض الشك نتيجة المتناقضات الموجودة في عصره بسبب التقليد الأعمى للاعتقادات والقيم الموروثة, وهذا أمر لا يمكن تصوره لأنها مذاهب يناقض بعضها بعضا ً, فإما أن تكون باطلة كلها و إما أن يكون أحدها صحيح والباقي باطلاً. فرأى أنه لا بد من الشك فيها حتى يستقل بفكره ويكون رأيه. فلا خلاص إلا بالإستقلال والشك بالموروث, ويعبر عن ذلك في قوله: " إن الشكوك هي الموصلة للحقائق, فمن لم يشك لم ينظر , ومن لم ينظر لم يبصر, ومن لم يبصر بات في العمى والضلال".

ديكارت: لقد تلقى ديكارت تعليماً جيداً في بداية طفولته وشبابه الأول ، ولكنه أمضى عمره فيما بعد في غربلة هذه الثقافة التي تلقاها ، بل و في نقدها وتدميرها أيضاً ،فقد اتخذ ديكارت منهج الشك الحازم حول الأفكار التي يتصورها العقل في وضوح ويقين كاملين والتي كانت بدايتها متمثلة في التقليد والتربية، في صور المعارف والحقائق التي تلقاها الإنسان منذ الطفولة، فأصبحت ضمن مجال اليقين الكامل والعرف الذي لا يمكن التفكير بعدم مصداقيته فقد تجرأ على نقد أكثر اليقينيات إنغراساً في نفسه ، و أعزّ الأفكار والعقائد على قلبه، وعودة ديكارت إلي الأفكار الأولية للطفولة يؤكد إلحاحه الشديد علي إعادة عملية الخلق والتكوين من حيث الأسس والبني الفكرية بالتوافق مع العلوم الجديدة في عصره من اجل أن يبني في العلوم شيئا ثابتا ومستقرا، خصوصا بعد إن عمل التقليد علي مفارقة العقل الإنساني لجميع مصادر السؤال والشك، ومن هنا بدأ ديكارت الشك بهذه الأفكار لاكتشاف النتائج الجديدة من خلال التمييز بين الأفكار الواضحة التي لا تقبل الشك وبين الأفكار التي من الممكن وصول الشك إليها.

الشـك المنهجـي:
دفع الشك الفلسفي كل من الغزالي وديكارت إلى السعي نحو استقلال عقلي, معتمدين على وعيهما بضرورة وجود حقيقة واحدة مطلقة, والبدء بطريقة جادة للوصول إليها, مقتنعين اقتناعا ثابتا بإمكان التوصل إلى معرفة هذه الحقيقة.
وقد اتبع كل من الغزالي وديكارت أسلوب الشك المنهجي الذي هو ليس شكا حقيقيا بل هو منهج يفترضه صاحبة بإرادته ، وذلك لاختيار معلوماته وتطهير عقله من الأخطاء وهو وسيلة وليس غاية وهو خطوة للوصول إلى اليقين .
- يقول الغزالي: ( إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور, فلابد من طلب حقيقة العلم ما هي).
- أما ديكارت فيقول: ( إن الأداة الحقيقية لكل علم وكذلك المنهج يتمثلان في البحث عن السؤال التالي: ما هي المعرفة وما هو المدى الذي تمتد إليه؟).

حــركـة الشــك:
يقول الدكتور محمود زقزوق: إن حركة الشك تبدأ إلى حد ما عند محيط الدائرة, عند شهادة الحس, لكي تندفع بعد ذلك في نهاية الأمر إلى مركز الشخص حيث يجد كل يقين لدى الإنسان جذوره.
ويشترك الغزالي وديكارت في البداية المتمثلة في إرادتهما المطلقة لمعرفة الحقيقة. ويسيرا في الطريق الذي يقودهما إلى الشك المطلق, ويستمران في سيرهما حتى يصلا في النهاية إلى نقطة التغلب الحاسم على هذا الشك.
و يبني كل من الغزالي وديكارت شكه على مراتب متعددة وهو بناء واحد لدى كل منهما:

الشك في الحواس:
تتقدم المعارف الحسية في أولى مراتب المعارف التي يحصل عليها الإنسان على أنها علم مباشر, ولكن هذه المباشرة وسهولة الفهم لهذه المعارف يتضح خداعها عند النظرة القريبة. وذلك لأن التجربة تبين أن المعرفة الحسية خاضعة لأوهام وخيالات.

الغزالي: بعد أن رفض الغزالي المعلومات التي حصلها عن طريق الحواس بالتقليد والتلقين, اتجه إلى المحسوسات ينشد فيها اليقين, لكنه شك في المعرفة الحسية لأن الحواس عرضة للخطأ كما في خداع الحواس, ويضرب مثالاً على ذلك بأننا نرى الكواكب صغيرة جدا في مقدار الدينار لكن الأدلة الهندسية تثبت عكس ما نرى وأن الكواكب منها ما هو أكبر من الأرض. فمن أين الثقة بالمحسوسات ؟
ويقرر الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال أن الحواس تخدعنا, وأن المعارف الحسية بناءا على ذلك عارية عن اليقين, ولهذا فلا يمكن أن تعد علما حقيقيا ً. يقول في ذلك الغزالي: "من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها البصر, وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا ً غير متحرك وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة, بل على التدريج ذرة ذرة, حتى لم تكن له حالة وقوف. هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه, ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا ً لا سبيل إلى مدافعته. فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا ً".

ديكارت: استبعد ديكارت شهادة الحواس لأنّها تخدعنا أحياناً ، ومن الفطنة ألاّ نأمن أمناً تامّاً لمن خدعنا مرَّةً ويرى ديكارت أن اختلاف الناس في أفكارهم واتجاهاتهم ليس إلا نتيجة خداع الحواس في كثير من الأحيان. يقول ديكارت: "كل ما تلقيته حتى اليوم وآمنت بأنه أصدق الأشياء وأوثقها قد اكتسبته من الحواس أو بواسطة الحواس. غير أني جربت هذه الحواس في بعض الأحيان فوجدتها خداعة, ومن الحكمة أن لا نطمئن كل الاطمئنان إلى من خدعونا ولو مرة واحدة" . وفي نهاية التأمل الفلسفي الثاني ، يتناول ديكارت مثال قطعة الشمع ” التي تم استخلاصها من خلية النحل: إنها صلبة وباردة ومتينة نسبيا ، وعندما نلمسها يصدر عنها صوت ، لكننا ما إن نقربها من النار حتى تتغير تغيرا تاما : فشكلها يتغير وتتحول إلى سائل ، تسخن و لا يصدر عنها أي صوت . . . لا يتم تصور الشمع إذن إلا عبر ” فحص عقلي ” كما استنتج ديكارت ـ والحواس لا تمنحنا مطلقا إلا معطيات هاربة ، قابلة للانمحاء وغير منتظمة .كتب ديكارت قائلا : "لا تقدم لنا الحواس أية فكرة عن الأشياء كما نصوغها نحن بواسطة العقل".

2-الشك في العقل:
بعد أن رأى كل من الغزالي وديكارت ما تنطوي عليه المعارف الحسية من خداع وشكوك, قررا رفضها بصفة مبدئية وعدم الاعتداد في عملية بحثهما عن الحقيقة, وتحول كل منهما إلى البحث في مدى يقين المعارف العقلية الأولية.

الغزالي: يقصد الغزالي هنا بالعقل العقل الفلسفي القائم على الاستدلال والاستنباط وهو عرضة للخطأ, مما يوضح قصور العقل الإنساني في الوصول إلى العلم اليقيني. يقول الغزالي: "لقد بطلت الثقة بالمحسوسات, فلعل لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من نوع أوليات الرياضيات كقولنا العشرة أكبر من الثلاثة), لكن الغزالي يصور شكه في المعرفة العقلية في حوار بديع على لسان المحسوسات قائلاَ: "بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا ً بي فجاء حاكم العقل فكذبني لولا حاكم العقل لكنت تستمر في تصديقي" . ويتساءل الغزالي ماذا لو ظهر حاكم آخر كذب حاكم العقل وما هو؟ ويرى أن عدم وجود هذا الحاكم ليس دليلا ً على استحالة وجوده, فقد يظهر في وقت ما ويثبت خطأ المعرفة العقلية. يقول الدكتور محمود زقزوق: "ومن خلال هذه النظرة العميقة ينفتح عمق لا قرار له. إذ يبدو أن الشك قد اتسع نطاقه عن طريق هذه الأفكار إلى مدى ليست له نهاية.

ديكارت: يرى ديكارت أن العقل بحكم تكوينه قاصر عن إدراك الحقيقة كاملة, بل هو عرضة للوقوع في الخطأ أحيان كثيرة، فقد لاحظ ديكارت أن استدلالات العقل تختلف من شخص إلى آخر حتى فيما يتعلق بالاستدلالات الرياضية ،ومن هنا وقوع بعض الناس في الخطأ في استدلاتهم الرياضية وعدم وقوع غيرهم.


الشك في الحياة الشعورية العامة:
إذا كانت وحدة العالم قد انحلت عن طريق التشكك في المعارف الحسية والعقلية انحلت إلى أجزاء متفرقة تتمثل في خبرات خداعة وغير يقينية, فإن هذه الوحدة تبدو الآن في حالة انهيار تام وتنحل إلى العدم. ذلك لأنه حتى تلك الأشياء التي كانت لا تزال حتى الآن تبدو بطريقة ما موجودة, لم يعد وجودها يستطيع أيضا ً أن يسلم من تيار الهجوم المدمر للشك. هذا الشك الذي يحيط هنا بكل شيء كان يمثل حتى الآن الثروة المعرفية كلها.والحجة التي تشكك في الواقع كله تتخذ من ظاهرة الرؤيا منطلقا ً.

الغزالي: بعد أن شك الغزالي في الحواس والعقل وأثبت قصورهما في الوصول إلى اليقين, امتد هذا الشك إلى الحياة الشعورية بصفة عامة وشكه في الحياة الشعورية هو تأييد لشكه في العقل, وإمكان وجود قوة أخرى تثبت خطأه فمن يدري قد تكون الحياة كلها مجرد وهم وخيال؟ ووجد الغزالي تأييد لرأيه بأحوال المنام, فالإنسان يرى في أحلام النوم أمورا ً ويتخيل أحوالا ً لا يشك في ثبوتها واستقرارها, وعندما يستيقظ يعلم أن ما رآه في الحلم مجرد وهم. ويرى الغزالي أنه إذا وردت تلك الحالة التي يكون فيها ما نعتقده في اليقظة بالحواس والعقل مجرد وهم وخيالات بالنسبة لها تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها. افترض الغزالي أن حياتنا قد تكون حلما طويلا لم نستيقظ منه لنعرف حقيقة الأمور مستندا إلى الحديث :" الناس نيام, فإذا ماتوا انتبهوا".

ديكارت: إن الرؤيا وخداعها يدفعان ديكارت مثل الغزالي إلى الشك في الحياة بصفة عامة. ولكنه يتناول المسألة من جانب آخر, إذ تدفعه هذه المشكلة إلى التفكير في كيفية التمييز بين اليقظة والمنام. ويجد ديكارت أنه ليست هناك علامات مؤكدة للتمييز بينهما, يؤدي به ذلك إلى التساؤل عما إذا كانت هناك معارف عقلية صادقة سواء كان الإنسان نائما أو مستيقظا؟ وينتهي ديكارت إلى القول بأنه لا يمكن أن يقال شيء يقيني عن وجود الأشياء, وبذلك تكون علوم الطبيعة والفلك والطب علوما معرضة للشك القوي فيها. ولكن الحقائق الرياضية تبدو لديكارت مشتملة على يقين لا سبيل إلى الشك فيه.

خاتمة:
تناول موضوع الشك بين حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي و الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت ، يجب أن يأخذ في الاعتبار التوافق المثير بين أفكار كلا الفيلسوفين بل و حتى بعض جوانب السيرة الذاتية لهم. فقد عاش كل منهما في عصر انحلت فيه عرى وحدة الفكر إلى مجموعة من الآراء المتناقضة التي تدعى كل منها لنفسها معرفة الحقيقة, ولكن دون أن تستطيع في النهاية البرهنة على صحة هذا الادعاء.
و فيما يخص التوافق الفكري بينهما فلا بد أن ذلك راجع إلى عملية التأثير و التأثر أي أن أحدهما كان متأثرا بالآخر ، ووفقا لتواجدهم في التاريخ نجد أن الغزالي كان موجودا قبل ديكارت ستة قرون تقريبا مما يعطي النتيجة القطعية بأن هذا الشك المنهجي كانت أصالته عند الغزالي و أن ديكارت بنى على فلسفة الغزالي و فيما يلي مقالة لسمير حلبي كتبها في ذكرى وفاة الإمام الغزالي يؤكد فيه هذه الحقيقة فيقول " وهذا المنهج الذي اتبعه الغزالي منذ أكثر من تسعة قرون شديد التشابه بما قدمه الفيلسوف الفرنسي ديكارت وهو ما يؤكد تأثره بالفيلسوف الإسلامي الكبير وأخذه عنه؛ فقد عاش الفيلسوفان التجربة المعرفية ذاتها، وإن كان فضل السبق والأصالة يظل الغزالي، فعبارة الغزالي الشهير "الشك أول مراتب اليقين" التي أوردها في كتابه "المنقذ من الضلال" هي التي بنى عليها ديكارت مذهبه، وقد أثبت ذلك الباحث التونسي "العكاك" حينما عثر بين محتويات مكتبة ديكارت الخاصة بباريس على ترجمة كتاب المنقذ من الضلال، ووجد أن ديكارت قد وضع خطًا أحمر تحت تلك العبارة، ثم كتب في الهامش: "يضاف ذلك إلى منهجنا". يشير ديكارت هنا إلى كتابه مقال عن المنهج ، و إذا أردنا أن نعقد مقارنة بهذا الموضوع لتوضيح تأثير الغزالي على ديكارت فيمكن ذلك عن طريق كتاب المنقذ من الضلال و كتاب مقال عن المنهج فستجد التوافق الغريب بينهم أو ليس بالغريب بعدما عرفنا تأثر ديكارت بالغزالي و اطلاعه على كتابه المنقذ ، و لكن قبل أن نعقد تلك المقارنة لا بد الإشارة إلى ما كان يجب أن يفعله فيلسوف كبير مثل ديكارت في مثل هذا الموقف و أقصد بذلك أن يوضح مصدره في هذا المنهج لا أن يدعي الفكرة أو أن يذكرها و يسكت مما يجعل نسبة هذا المنهج إليه بينما أصالة المنهج راجع إلى الغزالي و هو ما يسمى عندنا في الفترة المعاصرة بالأمانة العلمية ، و هذا يعتبر من المآخذ التي تأخذ على ديكارت و هذا لا يلغي كونه فيلسوف كبير له تأثير واسع على الفلسفة التي أتت بعده .
ولكن هناك فروق أساسية بين كل من العصر الذي عاش فيه الغزالي و العصر الذي عاش فيه ديكارت تلك الفروق تجعل المهمة الفلسفية لكل منهما تتخذ طابعا ً خاصا ً يظهر بوضوح في طريقة تفكيرهما.فقد ازحم عصر الغزالي بصفة خاصة بمشكلات دينية متعددة, فظهرت الاتجاهات الدينية والاتجاهات الفلسفية, وقد كان الفكر عند كل هذه الطوائف قائم على التقليد.
وقد عرف الغزالي أن هذا الفكر القائم على التقليد يمثل المشكلة الكبرى لعصره, لهذا رأى أنه من واجبه مكافحة كل أشكال التقليد.
أما عصر ديكارت فقد اتسم بوجه خاص بالاكتشافات الهامة في مجال العلوم وشروحها مما شكك في الآراء والتصورات المسيحية بوجه عام.
ومع وجود هذه الإختلافات بين عصريهما إلا أن الغزالي وديكارت اشتركا في الطريقة الفلسفية الحقيقية التي قادتهما في النهاية إلى الهدف المطلوب بلوغه عند كل منهما.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سعيدالعارف الضبع
المراقب العام للمنتدي



عدد المساهمات : 17528
العمر : 37
الموقع : الرياض

نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: نظرية الشك فى الفكر الانسانى    نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Icon_minitimeالسبت مايو 05, 2012 11:19 pm

قال ديكارت :

" الإنسان يجب أن يشك و لو لمرة واحدة في حياته "

و كان هذا دافعه للشـتك المنهجي الذي توصل به إلى اليقين الدائم
و سأعرض الآن خطوات الشك عند ديكارت و كيف قادته لليقين




أولا الشك في الحواس

يرى ديكارت أن كل ما تلقاه و أدركه و وثق به كان عن طريق الحواس و لكنه وجد الحواس خداعة و من الحكمة أن لا نطمئن لمن خدعونا و لو لمرة واحدة
المقصود بأن الحواس خداعة أي أن مثلا عندما ننظر لكوكب في السماء نراه في حجم الدرهم و هو أصلا أكبر من حجم الأرض


ثانيا الشك في الحياة الشعورية:
إننا كثيرا ما ننام و نحلم و نعتد اننا في الحقيقة
و لكنا نستيقظ و نجده حلما فما أدرانا أننا ليس نحلم الآن؟


ثالثا الشك في العقل شك ديكارت في العقل على لسان الشيطان الماكر
فيقول أن هناك شيطان ماكر يضلله و يجعل عقله يوقعه في الظنون
فشك في المعرفة العقلية




يمتاز الشك المنهجى لديكارت بأنه ليس نهاية العقل الفلسفى بل هو البحث عن نقطة البداية ، النقطة التى يصح للفيلسوف أن يبدأ عندها ، فالشك هو المرحلة الأولى هو التأمل الأول للفلسفة.

حتى وصل ديكارت لليقين كالآتي






اليقين الأول : إثبات وجود نفسه (مبدأ الكوجيتو - Dubito Ergo Cogito, Cogito Ergo Sum)

الإنسان يشك و مادام هو يشك فهو يفكر ، لأن الشك نوع من أنواع الفكر ، وطالما هو يفكر فهو ليس معدوم إذن فهو موجود حتما ، فإهتدى ديكارت إلى حقيقة أساسية لا سبيل إلى الشك فيها ، بل ويمتنع الشك فيها حتى إذا أراد ذلك وهى اليقين الأول حقيقة "الكوجيتو" : " أنا أشك إذا أنا أفكر ، وأنا أفكر إذا أنا موجود ".
و تسائل ديكارت : " كيف يمكننا أن ندعي أننا لسنا موجودين حين نشك في الأشياء جميعا ؟؟ "



اليقين الثاني : إثبات وجود الله

الإنسان يشك إذن هو ناقص ... و ما دام يشعر أنه ناقص إذن فلديه فكرة عن الكمال
فمن الذي أودع تلك الفكرة في عقله؟ بالطبع الكامل الوحيد هو الذي أودعها
و الإنسان لا يمكن أن يوجد نفسه لأنه ناقص يشــك
إذن هناك إله كامل هو الذي أوجده و هو الذي أودع في ذهنه فكرة الكمال.



اليقين الثالث إثبات وجود العالم الخارجي

ما دام الله كامل إذن فهو صادق لأن الكذب يتنافى مع الكمال
و ما دام أوجدنا إذن فالحياة الشعورية موجودة و نحن لسنا في حلم لأنه صادقا




و بذلك كانت فكرة الكمال الإلهي هي التي أدت إلى :

1- إثبات وجود الحياة الشعورية
2- رفض فكرة الشيطان الماكر
3- التأكد من وجود الحقائق اليقينية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سعيدالعارف الضبع
المراقب العام للمنتدي



عدد المساهمات : 17528
العمر : 37
الموقع : الرياض

نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: نظرية الشك فى الفكر الانسانى    نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Icon_minitimeالسبت مايو 05, 2012 11:22 pm

موقفه من الفلسفة:انتمى الإمام الغزالي أولاً إلى علم الكلام على المذهب الأشعري (أحد مذاهب أهل السنة) وقد استخدم الفلسفة والمنطق الأرسطيين للدفاع عن الدين شأن سائر علماء الكلام في هذه المرحلة. ثم انتقل إلى التصوف مع احتفاظه بالانتماء إلى المذهب الأشعري كما يتضح في محاولته التوفيق بين التصوف والمذهب الأشعري ليصبح أحد مؤسسي التصوف الأشعري أو السني وفي هذه المرحلة تأثر بالفلسفة الأفلاطونية شأن أغلب الصوفية إلا أنه نظر إلى هذه الفلسفة من خلال الدين لا العكس كما فعل أنصار التصوف الحلولي أو ما أسمي (التصوف الفلسفي) على الأقل في كتبه التي خاطبت العامة مثل إحياء علوم الدين. وهكذا فإن الغزالي لم يكن فيلسوفاً إسلامياً بالمعنى الدقيق للكلمة فقد انتمى إلى علم الكلام وأخيراً إلى التصوف ولكنه في كلا المرحلتين قدم إسهامات فلسفية ستناولها هنا بإيجاز.

كما يترتب على هذا أن موقف الغزالي من الفلسفة هو موقفاً نقدياً يتناولها من حيث اتفاقها أو اختلافها عن أصول الدين ففي الحالة الأولى يكون الرفض وفي الحالة الثانية يكون الأخذ والقبول وبناءاً على هذا قسم الفلسفة إلى ثلاثة أقسام. قسم يتناقض مع أصل الدين شكلاً مضموناً (حدده في ثلاثة قضايا) وهنا كان موقفه التحريم وقسم يتناقض مع هذه الأصول شكلاً (حدده في سبع عشر قضية) وهنا كان موقفه التبديع، أما القسم الأخير يمثل باقي القضايا الفلسفية فلا يتناقض مع هذه الأصول شكلاً ومضموناً وهنا كان موقفه الأخذ والقبول مع ملاحظة أنه يقصد بالفلسفة الفلسفة اليونانية.

نظرية المعرفة:

أ) إمكانية المعرفة (الشك المنهجي): تبنى الغزالي الشك المنهجي (الابتداء بالشك للانتهاء باليقين) كما في كتابه (المنقذ من الضلال) حيث يبدأ بالشك في الحواس بأدلة منها أن الكوكب نراه بحجم الدينار بينما البراهين تثبت أنه أكبر من الأرض. وإذا أمدتنا الحواس بمعلومات ثم جاء العقل فكذبها فمن يدريني أن هناك قوة أعلى من العقل قد يأتي وقت تثبت فيه خطأ الثقة في العقل. ثم شك في الشعور لأننا نحلم ونعتقد أثناء الحلم أن ما نراه حقيقة واقعية ثم نستيقظ ونعلم أن ما عشناه كان وهماً. ثم انتقل إلى اليقين بالكشف أو الدس أ وبتعبيره بنور قذفه الله في قلبه.

ب) وسائل المعرفة (الكشف):

نظرية الكشف الصوفي:تبنى الغزالي (شأن أغلب الصوفية) هذه النظرية، ومضمونها أن الحواس والعقل وسائل معرفة ظنية لهذا نلجأ للكشف كوسيلة للمعرفة اليقينية ومضمون هذا الكشف أنه بالرياضة الروحية يرق الحجاب بين الإنسان وخالقه حتى يزول فيتلقى الإنسان المعرفة تلقائياً مباشراً من الله بدون واسطة من الحواس والعقل.

القلب كتعبير عن الكشف:عبر الغزالي عن الكشف بالقلب كوسيلة للمعرفة، فالقلب عنده ليس الجسم المادي المحسوس الموجود في صدر الإنسان، إنما هو (لطيفة روحانية تمثل حقيقة الإنسان حسب تعبيره).

ح) طبيعة المعرفة (كيفيتها):ويحاول الغزالي توضيح كيفية حدوث المعرفة فيضرب مثالين:

الأول: أن القلب كالمرآة والعلم هو انطباع الصور في هذه المرآة، فإن القلب غير مجلوه فيما لا يستطيع أن يعكس العلوم، والذي يجعل مرآة القلوب تصدأ هو الشهوات، والذي تجلوه هو الإعراض عن هذه الشهوات.

الثاني: يقول أننا لو افترضنا حوضاً في الأرض احتمل أن ينساق إليه الماء من فوقه بأنهار تفتح عليه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض، ويكون ذلك الماء أغزر وأصفى. فالقلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، والحواس مثل الأنهار لذا يمكن أن يساق العلم بواسطة رفع الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.

نظرية الوجود:أما نظرية الوجود عند الغزالي فقائمة على الأخذ من نظرية الفيض ما يرى أنه لا يتناقض مع الدين الإسلامي:

- فيأخذ من هذه النظرية القول بعالمين: عالم جسماني سفلي وعالم روحاني عقلي علوي، غير أنه يطلق على الأول اسم عالم الملك (الشهادة) وعلى الثاني اسم عالم (الغيب). كما أنه يضيف عالم يتوسطهما هو عالم الجبروت كمقابل للبرزخ.

- ويرى أن الله تعالى صدر عنه عقل لأنه فياض على كل كائن وجوده، ولكنه لم يحدد كيفية صدور العقول عن هذا العقل، فضلاً عن أنه يرادف بين الفيض والأمر الإلهي.

- ويدلل على أن العقل هو أول درجات الفيض بالحديث (أول ما خلق الله العقل فقال له اقبل ثم قال له أدبر فأدبر...).

- ثم يوضح درجات الفيض بعد العقل وهي النفس فالهيولي ويطلق على العقل اسم القلم وعلى النفس اللوح المحفوظ.

- كما يرى أن العقول صدر عنها العالم الجسماني بواسطة النفوس.

- غير أن الغزالي يرفض النتيجة المنطقية لنظرية الفيض وهي قدم العالم ويقدم أدلة لنقضها في بعض كتبه.

نظرية القيم:أما نظريته في القيم على أساس أشعري – صوفي، حيث نجده أولاً يورد عدة تعريفات للفعل الحسن (القيم الأخلاقية هو ما ينطبق على سائر القيم) طبقاً لتعدد المعايير التي يستخدمها، حيث يعرفه بأنه ما يوافق غرض فاعله (معيار أداتي وظيفي) وما حسنه الشرع (معيار ديني شرعي) وما لفاعله أن يفعله (معيار الواجب).

كما يلتزم بالتصور الشرعي القائم على أن الحسن القبح ما حسنه وقبحه الشرع ولا حسن ولا قبيح قبل ورود الشرع. ويهاجم قول المعتزلة بالحسن والقبح الذاتيين. وبعبارة أخرى فإن الغزالي شأن سائر الأشاعرة يقر بالموضوعية المطلقة التكليفية المتمثلة في الوحي وينكر الموضوعية المحدودة التكوينية المتمثلة في الفطرة. كما ربط الغزالي بين القيمة والمنفعة فالعمل ليس شراً لأنه ضار وليس خيراً لا لأته نافع يقول (إن الكذب ليس حراماً لعينه بل لما فيه من ضرر على المخاطب أو على غيره )) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3،ص39).

تقويم :وقد رأى العديد من الباحثين أن مذهب الغزالي ينطوي على العديد من التناقضات غير أن هذه التناقضات لا يمكن فهم سببها إلا بمراعاة التغير الذي فكر بانتقاله من المتكلمين إلى التصوف (مع احتفاظه بأساسيات المذهب الأشعري في المرحلتين). كما يجب التمييز بين كتبه التي كتبها للخاصة (التي يغلب عليها المصطلحات الفلسفية والمسحه الأفلاطونية المحدثة) وكتبه التي كتبها للعامة (والتي يغلب عليها النصوص الدينية والفهم الظاهري لها)، وهو تقليد كان سائداً في عصره.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سعيدالعارف الضبع
المراقب العام للمنتدي



عدد المساهمات : 17528
العمر : 37
الموقع : الرياض

نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: نظرية الشك فى الفكر الانسانى    نظرية الشك فى الفكر الانسانى  Icon_minitimeالسبت مايو 05, 2012 11:29 pm

الانقطاع عن العالم والخروج من العزلة (3)

تأثر ابن خلدون بفقه الغزالي

لا يشير ابن خلدون إلى نقطة مهمة في كتاب (التعريف) وهي التطور الفكري الذي حصل عنده وانتقاله من مدرسة «شيخ العلوم العقلية» أستاذه الأول الأبلي إلى مدرسة صاحب كتاب (احياء علوم الدين) الإمام أبوحامد الغزالي.
حتى نفهم الخلاف بين صاحب المقدمة و«شيخ الفتيا» في تونس (ابن عرفة) علينا أن نتجاوز قليلاً تكرار ابن خلدون كلامه عن مؤامرات «بطانة السلطان» و«أهل السعايات» ضده. فالمشكلة بينهما ليست من هو أقرب إلى السلطان بل هي أساساً مسألة فكرية واختلاف تصوراتهما وتناقض وجهات نظرهما. فصاحبنا تطور فكره وانتقل خلال فترة اشتغاله بالسياسة والعلوم من جانب شيخ «العلوم العقلية» إلى جانب شيخ الفقه وعلوم الدين الإمام الغزالي. فابن خلدون بعد خروجه من قلعة ابن سلامة كان قد تحول إلى مفكر أصولي تجاوز كثيراً حدود علومه الأولى ومعارف أستاذه الأول (الأبلي) وأصبح في الضفة الأخرى من الجدل الدائر بشأن إمكانات التوفيق بين الشريعة والحكمة.
لا يطلعنا ابن خلدون على تطوره الفكري لا في المقدمة ولا التعريف ولا يشير إلى انتقاله من منهج إلى آخر. وبسبب النقص المذكور سيبقى تحليلنا افتراضياً يعتمد على دلائل نصية يمكن أن نستقي منها المعلومات.
يبدو أن صاحبنا تأثر كثيراً خلال انقطاعه بالسجالات والمناقشات التي قام بها الفقهاء وعلماء الأصول للفلسفة اليونانية. واكتشف في تلك السجالات والمناقشات فلسفة مستقلة عن العقل اليوناني وما ترجم عن أفلاطون وأرسطو وغيرهما. وأصابته الدهشة عندما لاحظ مستوى المحاججة التي أقدم عليها إعلام تيار الفكر الإسلامي لتمييز نفسه عن مختلف المدارس التي خلطت بين الفلسفة كآلة تفكير وبين المحمول الثقافي المضطرب بين العقل والنقل.
بسبب ذاك التأثير انتقل ابن خلدون من مرحلة الدهشة بأستاذه إلى تجاوزه والانقلاب عليه وتحول من معجب بأفكار المنطق اليوناني إلى معجب بالمنطق الإسلامي وسلاحه العقيدة. لكن انتقال ابن خلدون لم يكن من النوع العادي إذ لم يحاول تقليد من سبقه فاتجه نحو تأسيس علم مختلف وجد عناصره الأساسية في التراث الإسلامي.
كان العلماء والفقهاء قد انطلقوا بالرد على الفلاسفة اليونانيين وأنصارهم من نظرية الشك واستخدموا أدوات التحليل وآلات التفكير نفسها لنقض نظرية الشك بالإيمان ومن ثم تأسيس أدوات تحليل وآلات تفكير جديدة. وتراكمت السجالات والنقاشات إلى أن اجتمعت كلها عند الغزالي (توفي 505 هجرية/ 1111م) فقام بغربلتها وتنسيقها والرد عليها مستخدماً نظرية الشك نفسها... لكن الشك بالعقل. فالعقل برأيه قاصر لا يستطيع أن يفسر كل شيء ويستوعب كل شيء. فأضاف للعقل ما هو فوق العقل أو «وراء العقل».
توصل الغزالي إلى ذلك الاستنتاج بعد أن عالج مسائل العلوم وقسمها إلى فرعين: العلوم الضرورية الأولية، والعلوم المكتسبة بالتجارب والفكر، معتبراً أن أشرف أنواع العلم «هو العلم بالله وصفاته وأفعاله» (احياء علوم الدين، الجزء الثالث، صفحة 10).
لا يتوقف الغزالي عند الحد المذكور بل يواصل مشروعه النقدي وفي الآن التوفيقي بين العلمين فرأى أن «كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث» (ص16).
تقوم نظرية الغزالي على قاعدة مركبة إذ إن «كل علم له أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب. فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم» (ص16).
على هذا الفرز بين المعرفة (العلم المكتسب) والجهل يؤسس صاحب احياء علوم الدين الإيمان على ثلاث مراتب:
الأولى «إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض».
الثانية «إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام».
الثالثة «إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين» (ص 17).
آنذاك كان الغزالي متورطاً بالصوفية، التي نجح لاحقاً في تجاوزها، لكنه أكد في أجواء تلك الفترة أن العلوم تنقسم إلى عقلية وشرعية. وبدورها العقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة. وتنقسم المكتسبة إلى دنيوية وأخروية. ويتجه إلى الجمع بينهما وإعادة تركيبهما لأن الداعي «إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فاياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعاً بين الأصلين» (ص19).
ينتهي الغزالي إلى أخطر نتيجة كان لها أثرها في إطلاق أكبر حركة إحيائية للدين في القرن السادس الهجري حين يلغي التناقض بين الأصلين معتبراً أن العلوم العقلية في النهاية هي العلوم الشرعية وأن العقل يتطور نحو الشرع ولا يتناقض معه. و«ظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما. فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين، وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقضاً في الدين وهيهات» (ص19).
أثارت أفكار الغزالي ردود فعل متناقضة فهناك من عارضها من العلماء والفقهاء وهناك من وافقها وعمد إلى تطويرها أو تطبيقها فاتجه نحو تركيب العلوم الشرعية وإخضاع العقل للنقد وتطويعه لخدمة الشرع. وساهم الفضاء المذكور في تأسيس مناهج أخذت تتجه نحو التوفيق بين المذاهب السنية فهناك من قام بتركيب الفقه الشافعي مع الفقه المالكي وهناك من وفق بين الفقه الحنفي (أبوحنيفة) والفقه المالكي.
عايش ابن خلدون العصر المذكور وعاش في فضاء المدارس الفقهية المركبة من علمين وتأثر أكثر ما يكون بتلك الاتجاهات التوفيقية التي أخذت تشق طريقها في المغرب والأندلس على المستويين: العلوم العقلية والعلوم الشرعية.
استفاد ابن خلدون كثيراً من فكرة «نقد العقل» أو الشك به لينطلق إلى تأسيس علم البرهان على الموجودات والمحسوسات. فكل ما لا نستطيع أن نبرهن عليه فهو فوق الموجودات الحسية. لذلك لم يتجه ابن خلدون كما فعل الغزالي إلى مناقشة نظرية العقل والبرهنة على ما فوق العقل بل انطلق من نظرية الشك بالعقل (نقده) إلى ما تحت العقل وهو البشر أو العمران البشري. فأصولية الغزالي أصولية عقلانية تبحث في الخلق والخالق وأدلته بينما أصولية ابن خلدون أصولية اجتماعية تبحث في العمران وطبائعه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
نظرية الشك فى الفكر الانسانى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» اشواك الشك
» الشك .. وسوء الظن
» غزوة الفكر
» الحق والحقيقة فى الفكر العربى
» طالب الثانوى بقنا الذى اكتشف ثغرة فى نظرية اينتشاين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المـــنــتـــدى الـــعـــــــام :: قسم الحوار-
انتقل الى: