الشك المنهجي من الإمام الغزالي إلى ديكارت - عزت السيد أحمدإن التعريف التقليدي للفلسفة على أنها حب الحكمة ربما يصيب فعلاً ماهية الفلسفة، شريطة أن يفهم هذا الحب فهماً صحيحاً، فيكون حباً فاعلاً ومنفعلاً بآن معاً، والفاعلية هنا شرط لازب، فمن أحب الشيء طلبه، ومن طلب الشيء سعى له، وإلا بطُل الحب، وفلَّت الوشائج بين المحب والمحبوب، وبالتالي لم يعد ثمة علاقة يمكن التحدث عنها.
إذن فحب الحكمة يقتضي طلبها والسعي للحصول عليها، ولذلك وجب علينا هنا أن نتساءل: ما الحكمة؟
لقد درجت العامة على استخدام الحكمة بأكثر من معنى، فهي تقترن عندهم بالمثل (بفتح الميم والثاء) وبهذا المعنى نجد أكثر من كتاب يحمل عنوان "جامع أو مجمع الحكم والأمثال"، كما أنها صنو العلة الغائية وفي ذلك يقولون: "ما الحكمة من كذا؟"، وهي كذلك قرينة العقل السديد، وخير شاهد على ذلك ما نظمه أحدهم قائلاً:
إذا كنت في حاجة مرسلاً فأرسل حكيماً ولا توصه
وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيباً ولا تعصه(1)
وثمة دلالات أخرى كثيرة نستطيع أن نقول إنها كلها ذات صلة عميقة بالحكمة، في المدلول الشامل، ولا عجب في ذلك، إذ إننا نعني بها الفلسفة، وكأننا نعود إلى ما انطلقنا منه، وقد عرف (أبو البقاء الكفوي 1028-1094ه) الحكمة قائلاً: "هي العدل والعلم والحكم والنبوة والقرآن والإنجيل، ووضع الشيء في موضعه، وصواب الأمر وسداده، وأفعال الله كذلك، لأنه يتصرف بمقتضى الملك، فيفعل ما يشاء، وافق غرض العباد أم لا.
وفي عرف العلماء: هي استعمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال قدر طاقتها"(2).
والحقيقة أن كل تعريفات الفلسفة إنما تدور في فلك هذا المعنى، ولا تكاد تعدوه إذا ما اعتبرنا المطلب الأسمى، وهو الوصول إلى الحقيقة، هو الغاية القصوى من حب الحكمة وطلبها، تستوي في ذلك كل التعريفات حتى ما تعارض منها، ويتبدى لنا ذلك إذا ما لاحظنا أن كل الفلسفات تستند إلى أساس منهجي واحد، وإن تشعبت أغراضه أو تعارضت، ذلك الأساس هو الشك، فقوام الفلسفة في الحقيقة هو التساؤل، والتساؤل ضرب من الشك الأولي، وإن لم يبد ذلك جلياً في كل تعاريف الفلسفة، إلا أنه حقيقة متضمنة في التعريف والمنهج، وما من فيلسوف إلا وكان الشك نقطة البداية التي انطلق منها، سيان وعى ذلك أم لم يعه.
ولكن، هل كل ضروب الشك سواء؟ إن تتبع آثار الفلاسفة يكشف لنا عن ضربين أساسيين في الشك، أولهما شك مضمر، وثانيهما شك جلي، فأما الشك المضمر فهو الذي وجدناه عند الفلاسفة قاطبة، بالضرورة لا بالاختيار، حتى الذين انطلقوا من (مسلمات ما) إنما ذلك لتشكيكهم المضمر بغيرها...
وأما الشك الجلي، فهو الذي أعلن منهجاً ينطلق منه هذا المذهب أو ذاك، وهو نوعان، أولهما هدام، وثانيهما بناء، وإنما كان الأول هداماً لأنه مطلق لا غاية له إلا الشك، أي الشك لمجرد الشك، وهنا ينتفي أي إمكان لأية معرفة، صحيحة كانت أو خاطئة، وفي المغالطين "السفسطائيين" نموذج على ذلك "فقد وضع (جورجياس 480-375 ق. م) كتاباً عنوانه: -الطبيعة أو اللاوجود- وحاول فيه أن يقيم الدليل على هذه القضايا الثلاث: -لا شيء موجود- إن وجد شيء فلا يمكن أن يعرف- وإن أمكن أن يعرف فلا يمكن إيصاله إلى الغير-"(3).
"وبلغ الشك أشده في النزعة اللا أدرية التي تزعمها (بيرون 365-275ق. م) منكراً العلم واليقين، فلا يوجد حقيقة، وإنما هناك وجهات نظر يمكن إثباتها ونفيها بآن معاً، وبالتالي فلا شيء في نفسه حق، ولا شيء في ذاته خير أو شر، وإنما هو خير في رأيي أو رأيك، ومن ثم يجب أن نمتنع عن إصدار الأحكام القاطعة"(4) ويبدو جلياً أن هذا النوع من الشك لا يستقر على حال البتة، ولا يصل إلى حقيقة أبداً، لأن أصحابه يؤثرون التأرجح بين الشكوك على الركون إلى أي حكم.
وأما النوع الثاني من الشك الجلي، وهو الشك البناء، أو ما يسمى عادة بالشك المنهجي، فقد سمي بناء لأنه لا يتوقف عند الشك وحسب، وإنما أوجد أصلاً ليكون مرتكزاً نصل من خلاله إلى اليقين، أي أنه إجراء مرحلي نهتدي من خلاله إلى الحقيقة، والحقيقة اليقينية لا النسبية، وقد كان (الإمام الغزالي 450-505ه/ 1059-1111م) من أوائل من أرسوا قواعد هذا الشك، وتبعه الفيلسوف الفرنسي (رينه ديكارت 1596-1950م) بنفس الخطا، ليكون لكل منهما في التاريخ شأنه.
فالإمام (الغزالي): "استحوذ تأثيره الساحر على عقول الطبقات المسلمة كافة، ولا سيما الطبقات الوسطى، ولا يزال هذا التأثير مستمراً إلى اليوم يرتدي حللاً مختلفة، ويتجدد في صور متباينة، وكأنه يلازم حياة (الرأي العام) المسلم"(5) ولعل الإمام (الغزالي) –بشهادة معظم النقاد والمفكرين- الوحيد من بين فلاسفة المسلمين، الذي انتهج أسلوباً فلسفياً مميزاً مستقلاً عن أسلوب المدرسة اليونانية، مفتتحاً بذلك أسلوباً فلسفياً جديداً.
أما (ديكارت) فأصبح أبا الفلسفة الحديثة ورائدها العقلي"(6) ويقول (هيغل 1770-1830) في ذلك: "رينه ديكارت هو المحرك الأول للفلسفة الحديثة من حيث أنها تقيم الفكر أصلاً من أصولها... وليس من إسراف البتة أن يتحدث الناس بإطناب عن أثر ذلك الرجل في أهل عصره وفي العصور الجديدة: إنه بطل من الأبطال، لقد أعاد النظر في الأشياء من البداية"(7).
وسنحاول الآن أن نستقصي أوجه الشبه بين هذين الفيلسوفين فيما يتعلق خصوصاً بمسألة الشك الذي أسميناه بناء، أو هو ما يسمى عادة بالشك المنهجي، وبادئ ذي بدء نتساءل: لماذا لجأ هذان الفيلسوفان إلى هذا النوع من الشك تحديداً من جهة، وما دواعيه من جهة ثانية؟
الحقيقة أن الفيلسوفين كليهما لم يبتغيا من الشك إلا اليقين، فكان الشك أداة في منهج لا منهجاً، وسيتضح هذا في سياق الكلام، والذي دعاهما إلى ذلك يكاد يكون واحداً، فالإمام (الغزالي) يقول: "إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب، على كثرة الفرق وتباين الطرق- بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي... وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا، إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله () يقول –كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرناه ويمجسانه- فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات وأوائلها تلقينات، وفي تميز الحق منها عن الباطل اختلافات"(
.
أما (ديكارت) فيقول: "ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحة، وأن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذا حالها من الزعزعة والاضطراب، لا يمكن أن يكون إلا شيئاً مشكوكاً فيه جداً.. فحكمت حينئذ بأنه لا بد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد لي من بناء جديد من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئاً وطيداً مستقراً"(9).
إذن. لقد وجد الفيلسوفان نفسيهما أمام مذاهب وفرق مختلفة، مضطربة ومتضاربة، كل يتشيع لطائفة من الآراء والاعتقادات ويدعي أنها الأصح، وبالبداهة نتبين أن ذلك غير ممكن، ولذلك كان لا بد من التشكيك في هذه العقائد الموروثة، الواحدة تلو الأخرى، وبالفعل شرع الفيلسوفان باستقصاء هذه العقائد وسبر معانيها واستجلاء حقائقها، فأما (الغزالي) فيقول: "ولم أزل في عنفوان شبابي، منذ راهقت البلوغ قبل العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن كل عقيدة وفرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومستسن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صوفته -تصوفه- ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته"(10).
أما (ديكارت) فقد انتظر حلول الظروف الملائمة للقيام بهذه المهمة، ونظراً لأن الوقت ربما لا يسعفه –وهذا الأكيد- في معالجة كل الآراء والعقائد الموروثة، فقد اكتفى بأن يجد ولو سبباً واحداً للشك حتى يرفض هذا الأمر أو الرأي، يقول في ذلك: "واليوم وقد واتتني ظروف ملائمة لهذا الغرض، إذ خلصت فكري من كافة ضروب المشاغل، وأخليت نفسي بحمد الله من هزات الانفعالات، وظفرت لنفسي براحة مؤكدة، في عزلة مطمئنة، سوف أفرغ جداً وفي حرية لتقويض كافة آرائي القديمة على وجه العموم، وليس يلزم لهذا أن أبين أنها كلها زائفة، فهذا أمر قد لا ننتهي منه أبداً... فيكفي لرفضها جميعاً أن يتيسر وأن أجد في كل واحد منها سبباً للشك"(11).
ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الإمام (الغزالي) قد وقف على علوم زمانه وآراء أهله، وأن (ديكارت) لم يتأت له ذلك، وإنما الفيلسوفان كلاهما عمدا إلى أن يجدا من الأسباب أو الشكوك ما يكفي لرفض هذا الأمر أو ذاك، وكلامهما خير دليل على ذلك، كما أن الخطوات التالية تكشف بجلاء عما ذهبنا إليه.
أجال الفيلسوفان الطرف حواليهما يبحثان عن الموضوعات التي تنطوي تحت رحاب الشك، والأسس التي تقوم عليها تلك الآراء والمعتقدات والعلوم... فوجدا خير بداية في موضوعات الحواس، فهي الأقرب للشك، والأكثر طواعية له، يقول الإمام (الغزالي) في ذلك: "الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من أحكامها أولاً لأتيقن أثقتي بالمحسوسات وأماني من الغلط في الضروريات من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليدات ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غائلة له؟
فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة بعد ساعة تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدرج... ثم تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار الدينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار، وهذا وأمثاله من المحسوسات، يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه؛ تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته، فقلت: بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً"(12).
والأمر عينه نجده عند (ديكارت) فقد حسب أول الأمر أن مواضيع الحس موضع الثقة والصدق، ثم لم يلبث بعد المعاينة والتجريب أن تبين خداعها وكذبها، وها هو ذا يقول: "كل ما تلقيته حتى اليوم وآمنت بأنه من أصدق الأشياء وأوثقها، قد اكتسبته من الحواس أو بواسطة الحواس، غير أني جربت هذه الحواس في بعض الأحيان فوجدتها خداعة، ومن الحكمة ألا نطمئن كل الاطمئنان إلى من خدعونا ولو مرة واحدة"(13).
ولكن إن خدعتنا الحواس في بعض الحالات والظواهر، أفيعني هذا أنها خداعة دائماً، لا ينبغي الوثوق بها أبداً؟ هذا التساؤل أثاره (ديكارت) وتابع قائلاً: "قد نقع على أشياء كثيرة أخرى لا نستطيع أن نشك فيها شكاً يقبله العقل، وإن كنا نعرفها بطريق الحواس، مثال ذلك: أني ها هنا جالس قرب النار، لابس عباءة المنزل، وهذه الورقة بين يدي، وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل، وكيف أستطيع أن أنكر أن هاتين اليدين يداي، وهذا الجسم جسمي؟"(14) فكيف السبيل إذاً للخروج من هذا الإشكال، ومقتضى الحال يفترض طى المحسوسات بين ثنايا الشك، على الأقل ريثما نصل إلى اليقين الذي نستند إليه ومنه ننطلق؟.
الحقيقة ثمة مخرج يستوعب هذا الإشكال، وما قد ينشأ من إشكالات أخرى بهذا الخصوص، وذلك باعتبار حالة النوم وما يتراءى للنائم في منامه، فقال (ديكارت): "ينبغي علي هنا أن أعتبر أني إنسان، وأن من عادتي لذلك أن أنام، وأني أرى في أحلامي عين الأشياء التي يتخيلها أولئك المخبولون (الذين اختلت أدمغتهم) في يقظتهم؛ بل قد أرى أحياناً أشياء أبعد عن الواقع مما يتخيلون، كم مرة وقع لي أن أرى في المنام أني في هذا المكان، وأني لابس ثيابي، وأني قرب النار، مع أني أكون في سريري متجرداً من ثيابي! يبدو لي الآن أني لا أنظر إلى هذه الورقة بعينين نائمتين، وأن هذا الرأس الذي أهزه ليس ناعساً.... ولكن عندما أطيل التفكير في الأمر، أتذكر أني كثيراً ما انخدعت في النوم بأشباه هذه الرؤى، وعندما أقف عند هذا الخاطر أرى بغاية الجلاء أنه ليس هناك أمارات يقينة نستطيع بها أن نميز بين اليقظة والنوم تمييزاً دقيقاً، فيساورني الذهول، وأن ذهولي لعظيم، حتى يكاد يصل إلى إقناعي بأني نائم"(15).
ولكن الإمام (الغزالي) لم يفته هذا المخرج، وكان الأسبق بردح من الزمن طويل بطرح نفس الخطوة هذه التي قال بها (ديكارت)، فخرج الآخر من إشكاله بالمنام، يقول الإمام (الغزالي) في ذلك: "فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولا شك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها. لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالنسبة إليها، فإذا أوردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها"(16).
إذن فالفيلسوفان كلاهما لم يجدا من القرائن اليقينية ما يجعلهما يميزان بين رؤية اليقظة ورؤيا المنام، ولذلك كان الخروج من الإشكال بالمنام صحيحاً.
وجلي أن الإمام (الغزالي) لم يقصر ملابسة المنام على الإدراكات الحسية وحسب، بل جعلها تمتد لتشمل المدركات العقلية أيضاً، فالمنام تخيل، والتخيل قوامه الصور الحسية التي تختزنها الذاكرة.
هذا حال المحسوسات، فما هو مصير المعقولات، أو لنقل الضرورات العقلية؟ فهل نستطيع أن نشكك في أن الكل أكبر من الجزء، أو أن حاصل جمع الاثنين إلى الثلاثة لا يساوي الخمسة؟
لا (شك) أن هذا موقف حرج فيما لو حاول الفيلسوفان اقتحام هذا الحاجز المنيع والتشكيك فيه... هذا ما يبدو للوهلة الأولى، لأن الفيلسوفين فعلاً لم يتخاذلا عن الخوض في لجة هذا البحر العميق، فاعترف كلاهما بادئ ذي بدء بحراجة الموقف وصعوبته، ذلك بأن الضرورات العقلية أمور لا تقبل مدافعة الشك ومحاجته، فيقول الإمام (الغزالي): "فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات" كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً، موجوداً معدوماً واجباً محالاً"(17).
ويقول (ديكارت) في ذلك: "في حين أن الحساب والهندسة وما شاكلهما من العلوم التي لا تنظر إلا في أمور بسيطة جداً وعامة جداً، دون اهتمام كثير بالوقوف على مبلغ تحقق هذه الأمور في الخارج أو عدم تحققها، إنما تشتمل على شيء يقيني لا سبيل إلى الشك فيه: فسواء كنت متيقظاً أو نائماً هناك حقيقة ثابتة وهي أن مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبداً، وليس يبدو في الإمكان أن حقائق بلغت هذه المرتبة من الوضوح والجلاء يصح أن تكون موضع شبهة خطأ أو انعدام يقين"(18).
ثم لم يلبث الفيلسوفان أن شككا في العقليات معتمدين على نفس الدليل أيضاً -وهذا ما لم ينتبه أو يشر إليه أحد فيما علمت- بل إن (ديكارت) وإن لم ينف أن يكون قد سبقه أحد إلى ذلك، فإنه قال، إنه: أول من قال بهذا الدليل، فما هو هذا الدليل الذي أمكن الفيلسوفين النيل من العقليات والتشكيك فيها؟
الحقيقة إننا وإن أطلنا البحث لن نجد إلا مخرجاً واحداً أو دليلاً واحداً يفتح أمامنا إمكانية التشكيك في الضرورات العقلية، ذلك الدليل هو أن يقف وراء حاكم العقل حاكم آخر، يستطيع إلزامه في كل مرة أن يتعسف في أحكامه، مخيلاً إليه أنه على صواب، وهنا يمكن رفض الضرورات العقلية واعتبارها ضروباً من الأوهام أو الأحكام التي لا نستطيع أن نقف على مدى صحتها، وانطلاقاً من ذلك قال الإمام (الغزالي) بالمختصر المفيد: "لعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الأمر لا يدل على استحالته"(19).
أما (ديكارت) فيقول في ذلك: "ومع ذلك فإن معتقداً قد رسخ في ذهني منذ زمن طويل، وهو أن هناك إلهاً قادراً على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود، فما يدريني لعله قد قضى بأن لا يكون هناك أرض ولا سماء ولا جسم ممتد ولا شكل ولا مقدار ولا مكان، ودبَّر مع ذلك كله أن أحس هذه الأشياء جميعاً، وأن تبدو لي موجودة على نحو ما أراها؟ بل لما كنت أرى أحياناً أن أناساً يغلطون في الأمور التي يحسبون أنهم أعلم الناس بها، فما يدريني لعله قد أراد أن أغلط أنا أيضاً كلما جمعت اثنين إلى ثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما"(20).
ولكن الله أسمى من أن يضلني "وإذن فسأفترض، لا أن الله –وهو أرحم الراحمين وهو المصدر الأعلى للحقيقة- بل إن شيطاناً خبيثاً ذا مكر وبأس شديدين قد استعمل ما أوتي من مهارة لإضلالي، وسأفترض أن السماء والهواء... والأشياء الخارجية لا تعدو أن تكون أوهاماً وخيالات قد نصبها ذلك الشيطان فخاخاً لاقتناص سذاجتي في التصديق، وسأعد نفسي خلواً من اليدين والعينين واللحم والدم، وخلواً من الحواس، وأن الوهم هو الذي يخيل لي أني مالك لهذه الأشياء كلها وسأصر على التشبث بهذا الخاطر"(21).
إذن فالحاكم الذي يقف وراء إدراك العقل الذي قال به الإمام (الغزالي) دون أن يسميه، افترض (ديكارت) أنه شيطان ماكر خبيث بمقدوره تضليلي وتخطئتي دائماً في أحكامي على حد تعبيره.
والفرق الذي نجده هنا يكمن في موقف كل منهما من العقل، ففي حين وسم (الغزالي) موقفه باحترام العقل وتقديره، نجد أن (ديكارت) الذي أثر عنه إيلاؤه العقل كل الأهمية حتى سمي بفيلسوف العقلانية، قد غدا موقفه قلقاً حين جعل هذا العقل تحت رحمة شيطان ماكر خبيث، عرضة بتحكمه وتلاعبه.
ولكن حق لنا أن نتساءل الآن بعد أن أتى شك الفيلسوفين على كل شيء؛ فلم يبقيا على محسوس ولا على معقول؛ وهما الآن على أبواب اليقين، ما هو اليقين الذي لا يقبل الشك بطبيعة؟ وهنا أيضاً يلتقي الفيلسوفان، فحدد الإمام (الغزالي) ذلك قائلاً: "فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً، لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً، فإني إذا علمت أن العشرة أكبر من الثلاثة، فلو قال قائل: لا، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، أما الشك فيما علمته فلا"(22).
وعلى نفس الوتيرة سار (ديكارت) منادياً بنفس المعيار، جاعلاً إياه القاعدة الأولى من قواعد منهجه. فيقول: يجب "أن لا أتلقى على الإطلاق شيئاً على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أعنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة، وأن لا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز لا يكون لدي معهما أي مجال لوضعه موضع الشك"(23).
وقد بين (ديكارت) في كتابه "مبادئ الفلسفة" مراده من الأفكار الواضحة والمتميزة، فهو "يطلق على الفكرة الحاضرة المتجلية لذهن متيقظ- الفكرة الواضحة- وعلى الفكرة الواضحة والمنفصلة معاً عن سائر الأشياء الأخرى، بحيث أنها لا تحوي في ذاتها إلا على ما هو واضح- الفكرة المتميزة"(24).
وهنا، في نهاية المطاف، حيث الانتقال من الشك إلى اليقين يفترق الفيلسوفان في الطريق ليلتقيا في المبدأ والنتيجة، فاتخذ كل منهما للخروج من الشك سبيلاً، فأما الإمام (الغزالي) فيقول: "ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيَّق رحمة الله تعالى الواسعة"(25).
أما (ديكارت) فجعل الخروج من الشك إلى اليقين قائماً في الآنية المفكرة، هذا الأمر الذي لم تستطع رحاب الشك أن تطويه، فما دام شاكاً، فهو يقيناً موجود، وهو يقول في ذلك: "ولكنني سرعان ما لاحظت وأنا أحاول على هذا المنوال أن أعتقد بطلان كل شيء، أنه يلزمني ضرورة، أنا صاحب هذا الاعتقاد، أن أكون شيئاً من الأشياء، ولما رأيت هذه الحقيقة، أنا أفكر، إذن أنا موجود، هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين. مهما يكن فيها من شطط حكمت بأني أستطيع مطمئناً أن أتخذها مبدأ أول للفلسفة التي كنت أبحث عنها"(26).
***
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا المبدأ الذي اتخذه (ديكارت) مبدأ أولاً للفلسفة.
والذي سماه (الكوجيتو) أو (أنا أفكر، إذن أنا موجود) إنما هو بالأصل للشيخ الرئيس (ابن سينا 370-428ه/ 980-1037م)، هذه الحقيقة نلمسها في نص (لابن سينا) من كتاب الشفاء، قسم الطبيعيات، الفن السادس، اشتهر باسم (الرجل الطائر)، وهذا النص نسوقه كما هو(27):
"لو خلق إنسان دفعة واحدة، وخلق متباين الأطراف، ولم يبصر أطرافه واتفق له أن لم يمسها ولا تماست ولم يسمع صوتاً، جهل وجود جميع أعضائه وعلم وجود آنيته شيئاً واحداً مع جهل جميع ذلك، وليس المجهول بعينه هو المعلوم، وليست هذه الأعضاء لنا في الحقيقة إلا كالثياب التي صارت لدوام لزومها إيانا كأجزاء منا عندنا، وإذا تخيلنا أنفسنا لم نتخيلها عراة بل تخيلناها ذوات أجسام كاسية، والسبب فيه دوام الملازمة، إلا أنا قد اعتدنا في الثياب من التجريد والطرح ما لم نعتد في الأعضاء، وكان ظننا الأعضاء أجزاء منا أكد من ظننا الثياب أجزاء منا وأما إن لم يكن ذلك جملة البدن بل كان عضواً مخصوصاً فيكون ذلك العضو هو الشيء الذي أعتقده أنه لذاته أنا أو يكون معنى ما أعتقده أنه أنا ليس هو ذلك العضو وإن كان لا بد له من العضو، فإن كان ذات ذلك العضو وهو كونه قلباً أو دماغاً أو شيئاً آخر أو عدة أعضاء بهذه الصفة هويتها أو هوية مجموعها هو الشيء الذي أشعرته أنه أنا فيجب أن يكون شعوري بأنا هو شعوري بذلك الشيء، فإن الشيء لا يجوز من جهة واحدة أن يكون مشعوراً به غير مشعور به، ثم ليس الأمر كذلك فإني إنما أعرف أن لي قلباً ودماغاً بالإحساس والسماع والتجارب، لا لأني أعرف أني أنا فيكون إذاً ليس ذلك العضو لنفسه الشيء الذي أشعرته أنه أنا بالذات، بل يكون بالعرض أنا، ويكون المقصود بما أعرفه مني أني أنا الذي أعنيه في قولي أنا أحسست وعقلت وفعلت، وجمعت هذه الأوصاف شيئاً آخر هو الذي أسميه أنا، فإن قال هذا القائل: إنك أيضاً لا تعرفه أنه نفس فأقول: إني وإنما أعرفه على هذا المعنى الذي أسميه النفس، وربما لا اعرف تسميته باسم النفس"(28).
وما دامت الحالة كذلك "فإني أكون أنا وإن لم أعرف أن لي يداً ورجلاً أو عضواً من هذه الأعضاء على ما سلف"(29) وكأننا نقف بذلك أمام الكوجيتو الديكارتي ولكن في لبوس آخر لا يختلف عنه إلا قليلاً من حيث الصياغة اللغوية، وبستة قرون ونيف من السبق الزماني.
ولعل أول من أكد هذه الصلة الوثيقة بين (ابن سينا) و (ديكارت) هو العالم الإيطالي (فورلاني) في مقال له بعنوان "ابن سينا ومقولة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود).
نشره عام 1927 في مجلة (Islamica)، معتمداً على النص ذاته.
"وليس (فورلاني) متفرداً بالقول بهذه القربى، فهذا محقق كتاب النفس من الشفاء (الفن السادس- قسم الطبيعيات) – (يان باكوش) يعقب في ملاحظة على ترجمته الفرنسية للنص المذكور(30) بقوله:
-إن هذا قول ديكارت المشهور، أنا أفكر إذن أنا موجود، ويتابع: فإن الصورة التي يقدمها ابن سينا تبرهن على أن نفس الإنسان كاملة، ولكن محجوبة هي التي تظهر دون وساطة الجسد، إنه موجود وإنه يفكر.
ومع أن الباحثين لا يذهبان حتى –إلى- التأكيد بأن ديكارت قد اطلع على نصوص ابن سينا مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، إلا أن فورلاني يميل إلى مثل هذا التخمين حين يشير إلى سعة إطلاع ديكارت على النصوص اللاتينية التي كتبت في العصور الوسطى، وقد كان كتاب ابن سينا قد ترجم إلى اللاتينية"(31).
***
إذن لقد وصل الفيلسوفان هنا –الغزالي وديكارت- إلى بر الأمان، أمسكا باليقين دون أن يخلصا من الشك، فقد اشترطا دون ذلك شروطاً ومعايير مبنية على بداهة المعاني وانكشافها لذهن متيقظ صاف، لا يدافعها أي شك ولا يخامرها أي غموض، وعلى العموم "سواء أكان رجوع النفس إلى اليقين بمعرفة خارجية، أم بنقد داخلي ذاتي فإن أمراً واحداً لا ريب فيه، وهو أن مفتاح المعرفة في كلا الحالين هو الحدس"(32).
هذا ما عنيناه من أن الفيلسوفين افترقا في طريق الخروج من الشك والتقيا في المبدأ والنتيجة، فالالتقاء كان في أن كلا الفيلسوفين جعل مفتاح المعرفة في الحدس، واليقين هو النتيجة المطلوبة، التي توصل إليها كلاهما.
بل وربما كان الإمام (الغزالي) أكثر دقة وإحكاماً في تحديد معنى اليقين ورسم معالمه التي تسوغ لنا التشبث به رغم كل ما قد يعترضنا من مؤثرات خارجية، أو ربما داخلية، ونظراً لما للموضوع من أهمية جد بالغة فقد كرس كتاباً على الأقل هو "معيار العلم" للاستفاضة في بيان وبسط معاني اليقين وكيفية تأسيس العلم عليه.
على أن ذلك مرتهن بوجود ضامن لحقيقة وصحة الأفكار التي نتناولها، والحقيقة أن الإمام (الغزالي) عندما رد أساس المعرفة إلى الإلهام لا إلى العقل كان قد سبق (ديكارت) بالقول بأن الله يضمن لنا الحقيقة، يضمن أن معارفنا حقيقية غير زائفة، "إذ لولا الثقة في أن الله لا يمنحنا طبيعة مزيفة، لما أمكننا التعويل على العقل في اكتساب المعرفة"(33).
كما كان الأكثر إفصاحاً وإيضاحاً لجوانب هذه المسألة، سالخاً أبعاضاً من كتبه لتبيانها ضرورة وأبعاداً ودقة، "كمعيار العلم والقسطاس المستقيم وتهافت الفلاسفة.."
يقول: "فإن أتيتك بميزان في المعرفة... واضعه هو الله سبحانه وتعالى ومعلمه جبريل... ومستعمله الخليل ومحمد وسائر النبيين عليهم السلام جميعاً وقد شهد الله تعالى لهم في ذلك بالصدق"(34) وبالتالي فإن كل ما نتوصل إليه من معارف عن طريق العقل، عن طريق الاستدلال والقياس والمحاكمات العقلية عموماً هي معارف حقيقية بضمان الله لها.
"وكما تشابه الإمام (الغزالي) و (ديكارت) في أمر المعرفة، فقد تشابها أيضاً في أمر آخر هو موقف العقل من الوحي، أما (ديكارت) فقد روي عنه أنه نحى حقائق الوحي عن مجال العقل لأنها –في رأيه- لا تدرك إلا بمدد من السماء، خارق للعادة، فارتد بهذا إلى النزعة اللا عقلية في مجال الدين، أما الإمام (الغزالي) فقد جعل الغرض الأول والأخير من تأليف كتاب التهافت هو إثبات أن العقل قاصر عن إدراك حقائق الأمور الإلهية، وأنه لا يمكن التعويل عليه بشأنها –ودعا فيما يتصل بهذه الأمور- إلى مصدر آخر هو خبر النبي المعصوم"(35).
أما وقد فرغنا من عرض الخطوات والمعالم الرئيسية للشك المنهجي عند الإمام (الغزالي) و (رينه ديكارت) نعود للتساؤل الذي طرحناه مسبقاً عن دواعي الشك عند هذين الفيلسوفين، ولن أقول شيئاً هنا، وإنما سأكتفي بإيراد جوابين لمفكرين مختلفين، كل واحد منهما تولى الإجابة عن دواعي الشك عند أحد الفيلسوفين، وقد آثرتهما دون سواهما لأنهما يمثلان في الحقيقة خلاصة الآراء والمواقف في الإجابة عن هذا التساؤل على ما بدا لي من خلال بحثي، كما أنهما يفصحان عن رأيي أنا.
الأول للأستاذ (سليمان دنيا) ويقول فيه: "لقد سجل (الغزالي) ظاهرة فكرية قدرها فيه وأكبره من أجلها رجال الفلسفة، لقد حاول (الغزالي) بهذه الظاهرة أن يؤسس دعائم قوية يقيم عليها بناء المعرفة سليماً قوياً:
1-فلقد وضع للمعرفة منهجاً قويماً.
2-وللعلم حداً دقيقاً يخلصه من عناصر الغموض واللبس.
3-وأظهر استحالة الوثوق بالعقل عن طريق العقل نفسه.
4-وضرب أمثلة جديرة بالاعتبار لبيان إمكان خطأ العقل في أحكامه، وأخرى لبيان إمكان خطأ الحواس.
5-ورد أساس المعرفة إلى الإلهام لا إلى العقل، إذ لولا الثقة في أن الله لا يمنحنا طبيعة مزيفة لما أمكننا التعويل على العقل في اكتساب المعرفة"(36).
أما الرأي الثاني فللأستاذ (سكرتان) في كتابه (فلسفة الحرية) ويقول فيه:
1-لقد أراد (ديكارت) أن يبدأ ببناء العلم من أوله، أي أن يقيمه على حقيقة أولى يقينية.
2-فاستنبط من هذه الحقيقة الأولى معياراً عاماً لليقين.
3-ثم اعتمد على هذا المعيار العام، فارتقى من الحقيقة الأولى المعلومة إلى الحقيقة الأولى بذاتها، أي المبدأ الكلي.
4-ثم استنبط من هذا المبدأ الكلي معياراً عالياً للحقيقة مؤيداً للمعيار الأول.
5-ثم استند في النهاية إلى هذا المبدأ الكلي، وإلى المعيارين السابقين فاستنبط المبادئ المباشرة للأشياء، وأعاد بناء العالم الحقيقي"(37).
وعلى ضوء ما سبق وعرضناه في بحثنا يتضح أن هذين الرأيين يكادان يتطابقان إذا ما نظرنا إلى مدلول كل منهما دون التوقف عند ظاهر الألفاظ –وهو أيضاً كاف- ودفعاً للشبهات مما قد يثار من تساؤل حول رأي الأستاذ (سليمان دنيا) من أنه ربما يكون قد اطلع على رأي (سكرتان) فصاغ رأيه بما يتوافق معه، فنقول: وليكن ذلك فرضاً فإن هذا الرأي لا ينأى عن الحق، فهو قد سطر الرأي نتيجة لما استنبطه من دراسة آثار الإمام (الغزالي) وغير خاف شغف (سليمان دنيا) بالإمام (الغزالي) وسعة إطلاعه بمؤلفاته الفلسفية، وهذا ما وصلنا إليه نحن فعلاً، بل ربما لا نكون مبالغين إذا قلنا أن هذا ما سيجده كل قارئ للإمام (الغزالي)، فهو شأنه شأن (ديكارت) بعدما نظر إلى تقدم العلوم وتباين الفرق واختلاف المذاهب...
أراد أن يوجد أساساً لتقدم العلم، وحداً دقيقاً له يخلصه من شائبة الغموض، ومنهجاً قويماً يسير على هديه، ومعياراً عاماً للحقائق التي يتوصل إليها.
وأخيراً نجدنا أمام تساؤل عريض يطرح نفسه بإلحاح وهو: ما حقيقة هذا التماثل- أقول تماثلاً لأنه من غير الإنصاف أن ندعوه تشابهاً، وقد تبين لنا بجلاء كيف كان ذلك –في مسألتي الشك واليقين عند الإمام (الغزالي) و (ديكارت) وما تفرع عنهما من مسائل؟!
هل هي الفطرة السليمة والحدس النقي كما يقول الإمام (الغزالي): "ولقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي لا باختياري وحيلتي"(38) هذه الغريزة أو الفطرة التي يلتقي الناس عندها ويتساوون بها؛ ولا سيما أن الفيلسوفين كليهما يحفزهما نفس الغرض ألا وهو الدفاع عن الدين والذود عن حياضه، فيكون هذا بمثابة دليل على ما سعينا لأجله وجهدنا في سبيله.
الحواشي:
(1)هذان البيتان من قصيدة قصيرة، اختلف النقاد –القدماء- في فهم المقصود من –الحكيم فيها- وكذلك اختلفوا في نسبتها، فقالوا لطرفة بن العبد، وقالوا لصالح عبد القدوس، وقالوا لعبد الله بن معاوية الجعفري..
(2)أبو البقاء الكفوي –الكليات- وزارة الثقافة دمشق –ج2- ص 222.
(3)أحمد أمين وزكي نجيب محمود –قصة الفلسفة اليونانية. لجنة التأليف والترجمة والنشر –القاهرة- ط7-1970- ص 67.
(4)انظر في ذلك: قصة الفلسفة اليونانية –مس- ص 222 وما بعدها وكذلك: يوسف كرم – تاريخ الفلسفة اليونانية- دار القلم- بيروت ص 234 وما بعدها.
(5)د. عادل العوا- المذاهب الفلسفية- جامعة دمشق- 1986 ص 186-187.
هذا مع الإشارة إلى بعض التحفظ على التقسيم الطبقي الذي أورده الدكتور عادل العوا.
(6)م س – ص 245.
(7)هيغل –دروس في تاريخ الفلسفة- "فصل عن ديكارت".
مأخوذ عن كتاب: ديكارت- تأليف عثمان أمين- مكتبة القاهرة الحديثة- ط5-1965-ص26.
(
أبو حامد الغزالي –المنقذ من الضلال- المكتبة الشعبية- بيروت د. ت- ص 24-25-26.
(9)رينه ديكارت- التأملات في الفلسفة الأولى- ترجمة عثمان أمين- مكتبة القاهرة الحديثة –ط2-1956-ص53.
(10)المنقذ من الضلال –ص 24-25.
(11)التأملات –ص 53-54.
(12)المنقذ- ص 27-28-29.
(13)التأملات – ص 54.
(14)م. س- ذاته.
(15)م. س- ص 55.
(16)المنقذ-ص30.
(17)م. س- ص 29.
(18)التأملات – ص 56-57.
(19) المنقذ –ص29-30.
(20)التأملات ص 57.
(21)م. س-ص57.
(22)المنقذ-ص26.
(23)رينه ديكارت- مقالة في الطريقة- ترجمة جميل صليبا- اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع- ط2- 1970- ص102.
(24)د. عادل العوا، د. غسان فينيانس- المدخل إلى الفلسفة- جامعة دمشق- 1981-ص338.
كذلك: مقالة في الطريقة- هامش ص 102.
(25)المنقذ من الضلال –ص31.
(26)مقالة في الطريقة- ص134.
(27)استفدنا في هذه المقارنة من دراسة للدكتور غانم هنا، بعنوان "علاقة الفلسفة الحديثة بمفهوم العقل عند ابن سينا –مجلة التراث العربي- دمشق- العدد 5/6-1981-ص44-45.
(28)ابن سينا- كتاب الشفاء- الفن السادس من الطبيعيات- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت- 1982ص-252-253.
(29)م. س- ص 251.
(30)هناك بعض الاختلاف بين النص الذي أوردناه عن طبعة بيروت والنص الذي حققه (يان باكوش) وطبعه في براغ عام 1956، ولكنه في المفردات لا المعاني، ومرجع ذلك إلى الترجمة. يمكن مراجعة نص (يان باكوش) ومقارنته مع النص الذي أوردناه، في مجلة التراث العربي (العدد 5/6) في دراسة الدكتور غانم هنا السابقة.
(31)مجلة التراث العربي. م. س –ص45.
(32)جميل صليبا- تاريخ الفلسفة العربية- دار الكتاب اللبناني 1986-ص396-397.
(33)أبو حامد الغزالي- تهافت الفلاسفة- تحقيق سليمان دنيا- دار المعارف- مصر- مقدمة المحقق- ص 24.
(34)أبو حامد الغزالي-القسطاس المستقيم- تحقيق رياض مصطفى العبد الله، دار الحكمة –دمشق/ بيروت- 1986ص31.
(35)مقدمة التهافت –ص 29.
(36)مقدمة التهافت – ص 23-24.
(37)مقالة في الطريقة- المقدمة- ص 20.
(38)المنقذ من الضلال- ص 25.