إنهم يكررون التاريخ

التاريخ لا يكرر تجاربه، هذا رأى، ورأى آخر، هو أن التاريخ يعيد نفسه كثيرًا، بل تلك لعبته المفضلة. وبين النظريتين، هناك مَن يقول: إن التاريخ يعيد نفسه كصورة طبق الأصل إذا لم يتعلم المظلومون والمهزومون الدرسَ، أما إذا تعلموا الدرسَ والتجارب، فلن يصبحوا فئران تجارب جديدة، وعند تلك النقطة فإن التاريخ سيمحى لهم بكتابة تاريخ جديد غير مكرر ولا معاد.
طيب هذا عن التاريخ، فماذا عن شخصيات التاريخ، هل تتناسخ الصور، يعنى هل تتكرر الشخصيات التى تكون سببًا فى بدء تكرار التجارب، أقول هذا وأنا أستحضر عشرات المقولات بعضها لأجانب وبعضها لعرب مسلمين، ملخصها أن العرب لا يقرأون، بل هم أقل خلق الله ممارسة لفعل (قرأ يقرأ فهو قارئ)، مع أنهم الأمة الأولى والأخيرة المأمورة فى أول كلام ربها إليها بلفظ"اقرأ".
لن أذهب بعيدًا حيث أيام الفتنة الكبرى بين الصحابة، ولا عند خروج الحسين رضى الله عنه إلى كربلاء، ومحاولات ولد عمه عبد الله بن عباس رضى الله عنهما منعه من الخروج، ولا من محاولات عبد الله بن الزبير إقامة خلافة موازية للدولة الأموية، وما نتج بعد ذلك من اجتياح مكة على يد الحجاج، ثم صلب ابن الزبير وعرضه فى الطريق، ولن أذهب أيضًا إلى مئات المواقف من الاختلاف التى انتهت بذبول دول الخلافة. لن أذهب إلى كل هذا، ولكنى سأذهب بكم إلى أفغانستان، والتوقيت يوم إعلان فشل الغزو، وانتهاء الاحتلال السوفيتى بعد سنوات من القتال الضارى، ورايات الجهاد المدعومة من كل العالم الإسلامى، يومها تخيلنا أن الناس بدأوا فى الخروج من التيه، ولم ندرك أن التيه قد بدأ، واستعجل المنتصرون المتشرذمون النتائج، وتصوروا أنهم يستأهلون مقصد الآية الكريمة "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض "وكانوا أبعد بكثير عن هذا، فأصبحت أفغانستان قبلة لشياطين القتال والمخدرات، ما إن ظهرت طالبان، وقالت نحن هنا، حتى قلنا ربما انتهى التيه، ولم نتخيل أننا على شفا جرف هاوٍ ينهار إلى عمق التيه، وسقط البرجان، فسقطت دولتان، هما العراق وقبلها أفغانستان. نفس الشىء حدث بالجزائر مع الاختلاف الشديد، فما إن تعجلت جبهة الإنقاذ واكتسحت الانتخابات، حتى أصبحت بحاجة للإنقاذ.
اليوم فى مصر يبدو المشهد أشد مأساوية وملهاة فى آنٍ واحد، فالذين فوجئوا بالثورة، وبرحيل مبارك وزبانيته، تخيلوا وتوهموا أن ذلك هو جزاؤهم على صبرهم ورقى شأنهم، وأنهم يستأهلون تسلم وعد الاستخلاف، تاركين وراء ظهورهم أبجديات التربية وبديهيات المسئولية، فبدا للناس منهم ما لم يكونوا يحتسبون، وأصبح الناس ينظرون إليهم نظر الخائف من أن يستأثر هؤلاء بكل شيء، وهرول ذلك التيار نحو كل مقعد، واشتاق لكل سلطة ومكانة، وتخيل أن القوة بين يديه، فاندفع بحمق نحو الصدام، دون أن يعى دروس التاريخ، وأن عشرات الذئاب تنتظر حماقاته، فبدأت الحماقات من بعض الشيوخ الذين لم يغادروا جلسات الدرس، وما إن غادروها حتى غدر بهم جهل الواقع، فالحذر قبل تمكن الخطر.


محمود موافى